الموسيقى هي اللغة الموحدة بين البشر، لا تحتاج من أجل أن تفهم معزوفات بيتهوفن أن تتحدث اللغة الألمانية. إنها مؤلفات تخاطب الغوامض والألغاز داخل الذات. ذلكم هو سحر الموسيقى. بإمكان الإنسان أن ينفرد لوحده مع موسيقى موتزارت ويستنطق كوامنه، ويجلو الساكن في أعماقه، الموسيقى هذه المرة ليست عبر الأقراص المدمجة، وإنما في حفلة مباشرةً حيث استضافت أبوظبي مدينة الجمال، فرقة من أفضل فرق العزف في العالم للمرة الأولى في الشرق الأوسط. تستعيد أبوظبي زخم المزج بين التراث والمعاصرة، عبر فعاليات مختلفة ومتنوعة، تارةً في الرياضات، وأخرى في الآداب، وثالثة في الفن والموسيقى. قبل أيام افتتحت أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية مهرجان أبوظبي للموسيقى الكلاسيكية. ضوعت المقطوعات العذبة المكان، ونفدت التذاكر قبل الحفلة بخمسة أيام، واكتظت القاعة بالحضور. جاء الناس بحللهم الأثيرة إلى مناسبة ليس فيها كلام، مجرد صمت واستماع لمقطوعات هي من أعظم ما أنجزتْه الفرقة الرصينة التي تضم أهم العازفين العالميين. بدأ إيمانويل آكس العازف المسنّ، عزفا للمئات بأصابعه الشابة التي بهرت الحضور، وجعلتهم يقفون تقديراً له عدة مرات. إيمانويل هو أحد أبرز عازفي العالم، قام بعزف منفرد على البيانو، تبعه بتقديم معزوفة بيتهوفن الشهيرة الكونشيرتو الرابع على الآلة الساحرة “البيانو”. تذكرت وأنا أتابع نجاح الفعاليات مقولة الفيلسوف الرياضي فيثاغورس حينما وصف الموسيقى بأنها: “النموذج الأرضي للانسجام العلوي للأفلاك”، ولا عجب فسحر وجلال الموسيقى الكلاسيكية مكّنت الكثيرين من التطهر من أدران الحياة وأوجاعها، جعلتهم يأتون إلى مكان لا سطوة فيه إلا للآلات الموسيقية، يستجوبون حالاتهم، حالات الضعف… وحالات القوة… وحالات الحب… وحالات الحنين، تلك هي الوجوه التي تقدمها الموسيقى بحياديتها. إنها لا تقدم أفكاراً ولا مشاريع، ولا نظريات، لا تقدم أيديولوجيات ولا كلمات ولا مناظرات ولا خطبا، إن سحر الموسيقى يكمن في شيء أساسي خلاصته أن صمت الموسيقيّ شرط لنطق ألغاز الموسيقى وأسرارها، لقد ظل الناس في تلك الحفلة في حالة اندهاش لنجاح وحضور باهر لم يكن له أن يتم لولا أن هذه المدينة الساحرة الهادئة كانت هي الظل الذي يحرسهم تلك الليلة، غدت أبوظبي حورية البحر التي يحلم كل إنسان أن تكون هي مدينته، مدينة حققت معادلة النجاح الأساسية ألا تنسلخ عن تراثك وماضيك لأنه في النهاية هو هويتك وألا تنكفئ عن عصرك لأنه هو حاضرك ومستقبلك، تلك هي المعادلة التي حلّت التقدم الذي طالما اعتبره الكتاب والمفكرون عبارة عن هدف صعب التحقق إن لم يكن مستحيلا. أثق أن مهرجاناً كهذا يعنى ببث اللغة الأم للبشر وأعني بها لغة الموسيقى، إن نجاح مهرجان كهذا يعني نجاحات متعددة، نجاح أبوظبي المدينة التي دخلت في عمق العصر لكنها لم تتخل عن خضابها ولا عن لباسها التراثي الأصيل. لقد شعر الناس بحميمية بالغة وهم يودّعون العازف الأشهر إيمانويل آكس الذي غادر في الجزء الأول من الحفل، ثم انسجم الحضور مع قائد الفرقة غلبرت الذي قاد الأوركسترا بكل اقتدار عازفاً مقطوعات كانت أبرزها السيمفونية الأولى لمبدعها “غوستاف ماهلر”، وهي معزوفة ذات إيقاعات غنية تجاوز عمرها القرن، وكان قد أداها ماهلر عام 1909 في صالة “كارتيجي” في نيويورك، ليختم بها الجزء الثاني من الحفل مع تصفيق استمر لمدة عشر دقائق. في زمن يصفق فيه البعض لأهبط ما أنتجته الموسيقى في العالم العربي، وفي زمن الرخص الفني، تأتي هذه الفرقة وأمثالها في مدينة أبوظبي لتعيد للموسيقى أصالتها التي اكتسبتْها خلال القرون الماضية، أن يستمع الناس إلى بيتهوفن وماهلر بعزف آسر، أن نعيش كل هذه التركيبة من الحفاظ على الأصالة الفنية مهما كان منشأ ذلك اللون الفني أو موطن ذلك الفنان، إن مجرد إدراكنا لكل ما مضى لهو أمر يبعث على البهجة الغامرة. أظن أن أبوظبي هذه المدينة الرصينة المهيبة استطاعت أن تتحدث عبر هذا المهرجان مع كل أصقاع الأرض، لكن عبر الآلات، بعيداً عن صِدام الحضارات، بعيداً عن صِدام الكلمات وهذا هو الإنجاز العظيم.
جميع الحقوق محفوظة 2019