يسمي المسلمون الحجة الوحيدة للنبي عليه السلام “حجة الوداع”، وذلك لسببٍ واضح، أنها الحجة التي ودع النبي من خلالها المسلمين الذين جاؤوا من “كل فجٍ عميق”. غير أن هذا السبب لا يلغي القيمة الكبرى التي حملتْها حجة النبي من مضامين حقوقية عبّرت عن اكتمال التشريع، وتوديع مرحلةٍ جاهليةٍ، وبدء مرحلةٍ حضاريةٍ أخرى، اكتمل التشريع الديني في تلك الحجة:”اليوم أكملتُ لكم دينكم”. والخطبة النبوية التي ألقيت في يوم الحجّ الأكبر لا تزال هي الأساس للمعاني الأخلاقية التي يحتاجها الناس في كل زمن. حيث حرّم الأعراض والدماء والأموال، وأشار إليهم بأنه “قد لا يلقاهم بعد عامه هذا”. كانت خطبته زاخرةً بالمعاني الإنسانية العظيمة حيث قال:” أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها،… أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه إن كل مسلم أخ للمسلم وان المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت؟ فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم فاشهد”. تأتي هذه الخطبة لتضم معاني نحتاجها في هذه الأيام، ومن ذلك تعزيز الأخوّة التي تذيب الفوارق الطبقية والطائفية والانتماءات الضيقة التي تحجب حميمية المواطنة، أو جماليات الشراكة الكونية، أو رهانات التوافق البيني في المصالح المشتركة، في زمن الطائفية وتفجير السنة للحسينيات وتفجير الشيعة للمساجد، وفي زمنٍ يكفّر فيه المسلم المسلم، أو يأخذ حقه أو ينهب ماله، أو يشوّه عرضه، إن هذا الزمن لا يمكن أن يكون إلا زمن فقير يحتاج إلى تغذياتٍ أخلاقية كبيرة. ومن بين المعاني التي أكد عليها مقام النبوة العناية بالمرأة، والتي أوصى بها النبي في آخر مناسبتين في حياته، في حجة الوداع، وحين كان يغالب الموت، حيث أوصى بالنساء خيراً. لقد كانت التسرّبات التي وُرّثت منذ الزمن الجاهلي حاضرةً آنذاك في زمنه، لهذا كان يصرّ عليه السلام على تطهير كل العوالق التي أعاقت المرأة ودمّرت حضورها، فهي “العون” للرجل، وهي صنوه، لقد أحضرها النبي في خطبته ونهى عن اتهامها أو الشك بها، أو التعامل معها بالحدة والقسوة والإقصاء. كما أكدت الخطبة على تبليغ الرسالة في قوله “ألا هل بلّغت” تعبر هذه الجملة عن صميم الرسالة الدينية التي كان يحملها ويهتمّ بها، حتى صنع للعرب مجدهم التاريخي، ومن قبلُ لم يكن العرب شيئاً مذكوراً، هذه الجملة لا تقال إلا من عظماء العالم، ومبلّغي الرسالات النادرة، ومؤسسي النظريات الشاملة القوية. هذه الأيام الفضيلة أعادتنا إلى عبقِ زمن حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وهذه المعاني من الخطبة الشهيرة نحتاج إلى استعادتها في زمنٍ تستعاد فيه الثارات، وأدوات التجهيل والتمييز والإلغاء. كل عام وأنتم بخير. تركي الدخيل www.turkid.net
جميع الحقوق محفوظة 2019