عدت إلى الولايات المتحدة الأميركية في أول زيارة لها بعد إصابتها بمرض الأزمة المالية. تساءلت وأنا أهم بالنزول من سلم الطائرة عن سرّ الجدل الذي تثيره دائماً هذه الامبراطورية العجيبة، ليس على مستوى الأفكار والعادات والنماذج التي تنتجها وتلدها باستمرار، وإنما -حتى- على مستوى التأثير الذي يفعل فعله في كل أنحاء العالم. ما إن تمرض أميركا، إلا ويتأثر العالم بالعدوى. وأزمة الاقتصاد خير شاهد على هذا التساؤل، الذي راودني على شكل فكرة ربما تكون حقيقة. تجربتي في أميركا كتبتها من زاوية السعوديين، لهذا جاء كتابي “سعوديون في أميركا”، لكنني أركّز الآن أكثر على أميركا الأثر والتأثير على مستوى العالم. الصحافي الأميركي، فريد زكريا، يحاول أن يضع يده على الجرح، فيقول:”ومع نهاية الحرب الباردة، توقفت الولايات المتحدة عن الشعور بالقلق حيال خطر الاتحاد السوفييتي، ولهذا فقد تراجع التمويل للأبحاث والتطوير، في ميدان العلوم التطبيقية، بصورة حادة، إذ انخفض هذا التمويل بنسبة 40 بالمائة في تسعينيات القرن الماضي. وقد ارتفعت هذه النسبة قليلًا منذ ذلك الحين، ولكن حصة الحكومة من تمويل الأبحاث والتطوير الكلي لا تزال قريبة من مستواها الأكثر انخفاضاً على الإطلاق. وبينما لا تزال الشركات تنفق على الأبحاث والتطوير، فإن هذا التمويل لا ينفق على ذلك النوع من الأبحاث الأساسية التي تقود إلى الاكتشافات والاختراعات الجديدة”. كأن فريد زكريا، يريد أن يقول إن أميركا الامبراطورية، فقدت حس المنافسة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فخفّضت من الاهتمام بمراكز البحوث. كأننا نشاهد العالم وقد انحصر في قسمين: قسم المركز ممثلاً بأميركا. وقسم الهوامش، ويراد به بقية العالم. إن لعبة التحدي والتنافس والصراع التي صبغت مرحلة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأميركا، وبعد أفول الإمبراطورية السوفييتية. ركنت أميركا إلى التنافس مع ذاتها. وأعداد النيوزويك الأخيرة خلال الأشهر الستة الماضية، والتي خصص بعضها بأكمله عن الصين، لم تكن تطرح رؤى متفائلة بخصوص سيادة قريبة تقوم بها الصين. وبخاصة ورؤية محللين كُثر ترى أن سيادة أميركا الاقتصادية والسياسية على العالم ستستمر لعقود طويلة. إن طرح إمكانية سيادة التنين الصيني على العالم أطروحة تشبه أطروحات عودة طيف كارل ماركس، لا تتجاوز حدود الأحلام، أو التفكير الرغبوي لدى البعض. في أميركا تقرأ الجدل عن التعليم، بل وتتابع انتقادات حادة لطغيان التعليم التكنولوجي على تدريس العلوم الإنسانية، على عكس جامعاتنا التي لم تبرع في تدريس التكنولوجيا، ولم تعرف بعد معنى العلوم الإنسانية! أما في أميركا، فإن النقص الحاد في تدريس العلوم الإنسانية أثار الكثير من الجدل. لنقرأ مثلاً نموذجاً للنقد في مقال لـ”آلان برينكلي” يقول فيه: “إن العلوم الإنسانية لا تحظى بتمويل كاف على الإطلاق، ليس فقط من قبل الحكومة والمؤسسات المعنية بدعم التعليم، بل أيضاً، من قبل المؤسسات الأكاديمية نفسها. والأكاديميون المختصون بالعلوم الإنسانية، يتقاضون عادة أدنى الأجور بين بقية أفراد الهيئة التعليمية في معظم المؤسسات، وغالباً ما لا يحظون بتقدير كاف، لأنهم لا يجتذبون المنح ولا يوفرون خبرات يمكن الاستعانة بها في معظم المهن غير الأكاديمية”. ويبدو أن سبب نقد “برينكلي” لتخلف العلوم الإنسانية يعود إلى فكرة على مستوى كبير من الأهمية، خلاصتها: أن علوم التكنولوجيا تتعلق بما يمكن أن نحققه، بينما العلوم الإنسانية تعلمنا ما يمكن أن نفعله. خلال إقامتي في لوس أنجلوس عرفت الفرق بين الجدل في أميركا والجدل في عالمنا، نحن نضيق بالتعليم النظري، بينما يضيقون هم بالتعليم التكنولوجي. نحن نرقص طرباً على مرض أميركا الاقتصادي، بينما نحن من أكثر المتأثرين بأزمتها. الفرق بيننا وبينهم أن شعوبنا تشمت بهم وتدعوا عليهم في منابرهم وشعائرهم، بينما شعب أميركا يعيش حياة مطمئنة هادئة، بعيدة عن الشماتة والتشفي… إنها الامبراطورية المتجددة، التي ربما تمرض لكن يصعب أن تموت، ولا يبدو أننا سندرك موتها!
جميع الحقوق محفوظة 2019