مع أحداث البحرين الحالية طفا من جديد مصطلح “الطائفية”، الذي يعيد إلى الأذهان الحروب الأهلية في العالم الإسلامي، بسبب قضايا تاريخية، ويوماً بعد يوم لا تزداد الطائفية إلا انتشاراً واتساعاً وتفشياً. في تراث الأقدمين وقصص المعاصرين ما يمكنه سدّ فجوات التعصب هذه. لردم هوة الطائفية والنزاع وبخاصةٍ بين طائفتي السُنة والشيعة، كان علي بن أبي طالب يقول في عمر بن الخطاب: “قَوّمَ الأود، وداوى العمد، خَلف الفتنة، وأقام السُّنَّة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرَّها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق مُتشعَّبة، لا يهتدي فيها الضَّالُّ، ولا يستيقن المُهتدي”. إن من يتغافل عن هذه الكلمات لا يريد المسالمة بين الناس، بل يريدها حرباً شعواء إلى يوم يبعثون. والغرض نفسه لمَنْ ينكر فتوى إمام الأزهر الشَّيخ الراحل محمود شلتوت وهو أحد أعمدة التقريب بين المذاهب، وتربطه صداقة وطيدة بمرجع زمانه من الشِّيعة آية الله البروجردي: “إن مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الشِّيعة الإمامية الاثني عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً …”! كذلك لم يتقدم إمام الشِّيعة في وقته الشَّيخ محمد حسين كاشف الغطاء على تحريم وإلغاء، ما علق بالذاكرة الشيعية العامية، من ممارسات العهد الصفوي، إلا وغايته الحرص على المسالمة بين أهل البلد الواحد (العراق)، يوم حرم ممارسة ما يسمونه: “تاسع ربيع وعيد الزهراء”، والمعروف بـ(فرحة الزهرة)، وهو ما يصادف وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، بدافع أن عمر رفس الزهراء وأسقط جنينها، وهو كذب بكذب وقف ضده علماء شيعة معروفون، ومنهم محمد حسين فضل الله، مع أن أكثر المؤرخين أكدوا وفاته يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة! بعض المتعصبين يكتفون فقط بإحياء التراث التاريخي الذي يكرّس الخصو مة والنزاع والتطاحن، ويغفلون أشدّ الغفلة عن إرث التعايش والتوادّ بين الطائفتين! مثلاً هناك شواهد تاريخية عديدة على اتخاذ الصَّلاة كوسيلة للمواجهة السِّياسية، وإظهار التقارب المذهبي عبرها. وما أن ينتفي الغرض إلا وعادت الفتنة والخلاف الطَّائفي بما هو أكثر عمقاً. يروي جمال الدِّين أبو المحاسن بن تغرى بردى التوحد في الأذان والصَّلاة بين شيعة وسُنَّة بغداد لأمر عابر، وهو مواجهة والي الشرطة. قال: “فيها كان من العجائب أنه وقع صلح بين أهل السُّنَّة والرافضة، وصارت كلمتهم واحدة، وسبب ذلك أن أبا محمد النَّسوي وليَّ شرطة بغداد وكان فتاكاً، فاتفقوا على أنه متى رحل إليهم قتلوه، واجتمعوا وتحالفوا، وأُذن بباب البصرة (محلة سُنَّية) بحي على خير العمل، وقُرئ في الكرخ (محلة شيعية) فضائل الصحابة، ومضى أهل السُّنَّة والشِّيعة إلى مقابر قريش (ضريح الإمام الكاظم)، فُعد ذلك من العجائب. فإن الفتنة كانت قائمة والدماء تُسكب، والملوك والخلفاء يعجزون عن ردّهم، حتى وُلّي هذا الشرطة، فتصالحوا على هذا الأمر اليسير، فلله الأمر من قبلُ ومن بعدُ”. ومن عجائب القصص ذلك التعايش بين صحافي نجدي سُني، وصحافي عراقي شيعي، كان ابن عمنا الصحافي النجدي سليمان بن صالح الدخيل يدرس ببغداد، قادماً من القِصيم أحد معاقل الحنبلية، درس عند السيد محمود شكري الآلوسي وهو عالم سُني معروف، وأصدر بالعراق جريدة “الرياض”، ليكون أول صحافي نجدي. في ذات الوقت كان السيد هبة الدين الشهرستاني يصدر مجلة “العلم”، وكان التعاون بينهما كسر كل الأطر الطائفية، فالدخيل يطبع مجلة الشهرستاني ويشرف على إدارتها، والشهرستاني يسوّق الرياض في الإعلان عنها في مجلته، قبل أكثر من مائة عام! ليس من الصعب أن نكون متسامحين متعاضدين تربطنا الولاءات للأوطان، وهذا سهل ومتاح لمن كان جاداً في تحقيق أسس المواطنة وأساليب التعايش الإنساني الراقي والكريم، وما أجمل ما قاله علي الشرقي: لعلَّ الغَــدَ المأمـولَ يَزحـفُ جيلُه لفتحٍ فقـد آنستُ بعضَ الطَّلائعِ طلائعُ في فجري وشِعري تسابقتْ فشِعرِيَ شيعيٌّ وفجريَ شافـعي. واختم بأن الطائفية جرثومة تتنامى إذا ضعفت الأمة وانشغلت عن قضاياها المصيرية بالتوافه والقضايا الساقطة، كفانا الله الشرور!
جميع الحقوق محفوظة 2019