لا أعرف من المشروبات ما غلب اسمه على المكان، والزمان، والجلَّاس، فحمل اسمها كل معنى، غير القهوة العربية.
إنها فعل تحريض على الاجتماع والسمر، وهي دعوة كاملة لتفعيل الكرم بالحب. يقول الداعي لضيفه: «تقهو»، كلمة تقال تلطفاً، وتحبباً، يفهمها المتفضل بالقدوم بطرقٍ شتى، لكن الأكيد أن هذه الكلمة السحرية، لا تحتاج لرابط من – خرائط السيد «غوغل» – ولا تحتمل توقيتاً يجعلها من الساعة الفلانية، إلى الساعة التي يتم فيها الانتهاء من وقت التقديم، أو تفض الفاتورة جلسة السامر، ولا موضوع ثابت في حضرتها، فلكل قهوة حديثها، وضحكاتها، من أدق الأسرار، إلى الحديث في السياسة من قبل من لا يعرف فيها شيئاً.
ومن كرم القهوة العربية أنها قد تتعب قليلاً من وقوف صاحبها، وتقدر تطويل الجالس للكلام، فيكون ذلك إيذاناً بالغداء، أو العشاء، أو حتى أنها تكتفي برائحتها، ليستيقظ الضيف فجراً، فيفهم أن فطور أهل البيت بالانتظار، وأن كل ما يحتاجه لبدء نهار جاهز، عندما تعبق رائحة القهوة في الأجواء.
وقد يجدولها الكرام بينهم، فتكون كل يوم عند واحد منهم، بل وقد يتنازل أحدهم تكريماً لفاضلٍ في الحي، فيعطي دوره لمن هو أكبر منه سناً، لأنه رأى في عينه طلباً وحباً في ذلك، ولا ينسى المتنازل له فضل صاحبه، فيتنهد بعد خمسين عاماً ويقول: «عرفت فلاناً، حين تنازل جارنا الكريم عن دوره في القهوة لي»، ولا أوافق أبداً ابن منظور – وذلك من حق العبد الضعيف – حين يعرف هو ورفاقه القهوة، بأن اسمها مشتق من الإقهاء بقوله: «سميت»، بذلك لأنها تقهي شاربَها عن الطعام – أي تذهب شهوته، وفي «التهذيب» أي تشبعه.
وهي وإن كانت تشبع ضيفنا، فإننا نراها بداية الكلام وأول الترحيب، وفيها من الحب ما يحير أنواع التمر، فتغار من بعضها، وهي تقدم للضيف، الذي يتودد إليه بالفعل الحسن كل أهل البيت، وهي منشطة للذاكرة، حتى إنني أتذكر كثيراً من رفاق الطفولة، وجيران الأهل، بقهوتهم المميزة وأنا أكتب الآن.
وقد شبع الناس من حضورها، حتى حُرّمت في الحج، وجُلد شاربُها، وقد حلَّلها الفقهاء بعد تحريمها أكثرَ من مرة، ولناقدنا الكبير الأستاذ سعيد السريحي، عمل ذكي: «غواية الاسم: سيرة القهوة وخطاب التحريم»، فالتقط خيط الحكاية، وحاول أن يجعل القهوة حدثاً مركزياً، يتتبع من خلاله الوقائع والأحداث، وأنسنها، بما يليق بها، ليبدأ رحلة التسمية، واشتباكها مع الخمر، حتى تحايل بعض الفقهاء، بالفتح، والكسر، لتحريم صنفٍ وتحليل آخر، وتتبع لونها وإضافاتها، حتى وصل إلى زمن أضيفت فيه المكسرات للقهوة، فحُرمت، ونسبت هي ومجلسها لأراذل الناس، ثم كان هناك نقاش في بدايات شربها، بين رجال الدين حول تحريمها، فأُلفت الكتب في ذلك، حتى قويت حجة الإباحة، وأصبح أكثر مدمنيها هم العلماء!
لست فقيهاً، لكني محب للشعر، وأذكر أني حفظت أبياتاً لمسعود سماحة (1882 – 1946) – الشاعر والكولونيل في الجيش الأميركي – ومن ثم نسيتها لجمال رد المهدى إليه، فقد أهدى الأول سنين الترحال للثاني «بُناً فاخراً»، وضمنها بعض أجمل الإخوانيات. إيليا، العربي المسيحي، تصدر لإباحة القهوة، نافياً عنها علل الخمرة، وهو الخبير بالأختين:
فما في شربها إثم ونكر
وشرب الخمر نكر أي نكرِ
وليست تستخف أخا وقارٍ
وبنتُ الدنّ بالأحلام تزري
وتحفظ سرَّ صاحبِها مصوناً
وبنت الكرْم تفضح كلَّ سرِ
وللصهباء أوقات وهذي
شرابُ الناس في حرٍ وقرِّ
وتصلح أن يطافَ بها مساءً
وتَحسنُ أن تكون شرابَ ظهرِ
فلو عرفتْ مزاياها الغواني
لعُلّق حَبها في كل نحرِ
كأن حبوبَها خضراً وصفراً
فصوصُ زمردٍ وشذور تبرِ
كأن الجنَّ قد نفثت رؤاها
على أوراقها في ضوء فجرِ
عشق العرب القهوة، وخلدوها في أشعارهم، بتفاصيلها الساحرة، فهي بنت الوقت، وذات الطعم الفريد في كل بيت، ومن كل يد، بل لقد كان البدو يرفضون شرب القهوة حتى يلبي المضيف طلبهم، فيرضخ الأخير لأن عدم شرب الضيف للقهوة تقصير في واجب الضيافة، جالب للعار!
وقلَّ أن يصفَ رحالة خيمة عربي، من دون أن يصف قهوته أي مجلسه ودِلاله وترتيب الناس فيه، وبمن بدأ وبمن انتهى، وإن كان كثير منهم فتن بالقهوة مكاناً، وطقساً، ونسي أن جودة القهوة، وإضافاتها وأهل ود صاحبها، هم شاغل العرب، لا المكان.
ولحفيدة «بيرون»، وزائرة نجد الإنجليزية، «الليدي آن بلنت»، في عملها الشهير، «رحلة إلى بلاد نجد»، تفصيلٌ جميلٌ، لقصر «جبة»، فهي تذكر الموقد، وبيت الشَعر، والمقلط، وتصف أهل حائل بالكرم في كل تفصيلٍ صغير.
وفي عالم تمتلئ زوايا مدنه، وأزقتها، بالمقاهي – التي كانت قديماً وما زالت – جزءاً أصيلاً من بيوتنا اليوم، فكل بيت عربي هو مكان أكيد للقهوة، ما جعل السعودية، والإمارات، وعمان، وقطر، تسجل القهوة العربية سنة 2015، رمزاً للكرم العربي، في القائمة التمثيلية، للتراث الثقافي، غير المادي في «اليونيسكو».
وإن كانت سيدة الوقت اليوم تصدر من البرازيل، التي تورد للبشرية 90 في المائة، من حبوب القهوة، فلقصة وصولها إلى أميركا اللاتينية، طريق طويلة، تبدأ من ميناء المخا اليمني، ومن الغرائب أن المتصوفين كانوا يشربون القهوة ليلاً ليسهروا في الذِكر.
وأختم ببيت شعبي شهير للشاعر الشجاع راكان بن حثلين:
يا ما حلا الفنجال مع سيحة البال
في مجلس ما فيه نفس ثقيلة