لا أظنّ أن كلمةً تكررت في الإعلام العربي مثل “الديموقراطية” وبخاصةٍ في الثورات، والاضطرابات ونشوب مواجهاتٍ تشبه “الحرب الأهلية”. صارت الديموقراطية دارجة على كل لسان، وباتت حلماً يراود الجميع، فمن الذي يرفض أن يعيش في مجتمعٍ ديموقراطي له امتيازات بريطانيا أو فرنسا أو أميركا؟! الكل يحلم بمثل تلك المنظومات العظيمة في الحكم ورسم المجتمع المدني، وحماية الحقوق وصرامة القوانين وانضباط المجتمع بها، وهذا النظام الرائع هو الذي ينتج العيش الرغيد والأمن على النفس من خلال الحرية الفكرية الضرورية والخيارات السياسية المتاحة. في العالم العربي لم تنجح الدول التي زعمت أنها ديموقراطية، بل الدول الناجحة تلك التي أخذت بخيارات التنمية مثل دول الخليج، ولم تنشغل كثيراً بالديموقراطية لأنها استفادت من دروس عربية كثيرة لم تنجح كل وسائلها في تطبيق نموذج ديموقراطي ناجح. إلى الآن البرلمانات العربية مليئة بالخطب والقصائد التي تمدح الرئيس، كما شاهدنا مراراً، بينما يقتل الناس في الشارع من قبل قوات الرئيس. ويبقى السؤال الملح: لماذا فشل العرب في تطبيق الديموقراطية؟! رجعت إلى كتاب”تفسير العجز الديمقراطي في الوطن العربي” لمجموعة مؤلفين، قام بتحريره: إبراهيم البدوي وسمير المقدسي، ضم دراساتٍ عديدة لباحثين مختلفي المشارب والأدوات والتخصصات. يقول الدكتور فواز جرجس في مقدمة الكتاب إن هناك:”فجوة كبيرة بين الفهم النظري للديمقراطيّة وتحقيقها الفعليّ في أغلب الأحوال، وبخاصّة في البلدان النامية”، أن يؤمن فرد ما بضرورة تطبيق الديموقراطية فهذا لا يعني أنه يمكنه أن يتشرب ثقافة الديموقراطية، والتي تتطلب سلوكاً ليبرالياً مع المختلفين في الفكر والدين والمذهب والطائفة والعرق واللون. هذه المسافة بين المطالبة بالديموقراطية وامتثال متطلباتها هي سبب العجز الأساسي عن تطبيق الديموقراطية في العالم العربي المليء بكل معاني التمييز العرقي والفكري والطائفي. أما عبد الوهاب الأفندي، فيقارب في تحليله أسباب عجزنا عن تطبيق الديموقراطية، حين يقول”الأنظمة السياسية ثابرت على الاعتماد على أشكال مختلفة من القمع، بما في ذلك كسب الشرعيّة بتغييب الآخرين، وهندسة سياسة الأزمات، وذريعة احتواء الحركات الأصوليّة، وهو شكل للقمع تطوّر مؤخّراً. وثمّة وفرة في الأدلّة على أنَّ الحقوق السياسيّة والمدنيّة في البلدان العربيّة تعرّضت لانتهاكات خطيرة بشهادة تقارير مختلف منظّمات حقوق الإنسان العربيّة والدوليّة. وهذا كلُّه يؤيّد التقييم التجريبي القائل إنَّ ظلالاً مختلفة من الحُكم الأتوقراطيّ (غياب الديموقراطية) كانت قائمةً في البلدان العربيّة منذ استقلالها، باستثناء لبنان، وإنَّ اللَّبرَلة السياسيّة المحدودة التي تبنّاها بعض البلدان العربيّة في أوقات مختلفة لم تغيّر هذه الصورة كثيراً”. السؤال عن سبب انعدام الديموقراطية واختفائها من المشهد السياسي العربي، هو الذي جعل المنظمات الأصولية تجد طريقها نحو الظهور، لأنها تستخدم دعايةً لنفسها من خلال النصوص المقدسة الأمر الذي يمنحها حصانةً من المحاسبة السياسية، والتي لو حدثت فإن الشعب قد يثور مناصراً تلك الجماعة التي تلبس لبوس الدين. إن متطلبات الديموقراطية ثقافية قبل أن تكون سياسية، في لبنان مثلاً نجد المجتمع في ثقافته ليبرالياً، لكنه في نظامه السياسي لا يزال طائفياً، لأن الديموقراطية بمتطلباتها الليبرالية التي تعني المساواة بين المختلفين لم تنجح في لبنان، لهذا بقي البلد رهن النظام الطائفي الشرس! لا يكفي أن نطالب بالديموقراطية، بل من المهم دراسة معنى هذا المصطلح، وقراءة شروطه قراءة مستفيضة. الديموقراطية تنتج في المجتمعات المستعدة ثقافياً وليس فقط سياسياً أو تنظيمياً!
جميع الحقوق محفوظة 2019