لكل أمةٍ آثارها التي تحتفظ بها في خيالها الشعبي والوجداني والاجتماعي، والآثار ليست مجموعة من الأباريق القديمة، أو الخيام، أو أدوات طحن القهوة، بل هي الأرشيف البصري للأرض والإنسان. ومنطقة الخليج بكل ما تحمله من موروث كبير منطقة تضم خزانات من الآثار تنتظر التطوير والتفعيل. حسناً فعلت “الاتحاد” حينما أجرت حواراً ممتازاً مع الباحث المبدع في علم الآثار: ناصر العبودي. والذي فتح الباب على مصراعيه لإعادة الوعي بإرث طال إهماله، يطرح العبودي فكرة كتابة التاريخ عبر الآثار، يقول:”نحن ننطلق من الآثار في كتابة التاريخ القديم لمنطقة معينة وحضارة تلك المنطقة. الباحث يعود الى الوثائق المكتوبة لكتابة التاريخ لكن حين تنحسر الوثائق لأي سبب، ندخل في المجهول والغامض ولا نجد أمامنا سوى الآثار لتخبرنا أو تقدم لنا المعلومات حول تلك الفترات البعيدة، لتضيء لنا تلك المجاهيل وتجلي لنا ما غمض علينا. في الإمارات تزداد أهمية الآثار حيث نفتقر للوثائق المكتوبة عن تاريخ الإمارات القديم، فقبل 200 سنة لا وجود لوثيقة ولا شيء مكتوب. هنا، تقدم لنا المواد التي خلفها البشر (كتابات على الحجر، رسومات، تماثيل، أبنية، وغيرها) المعلومات، وبدراستها يمكن اكتشاف واستنباط تاريخ المنطقة القديم، ومن هنا تتضح الأهمية البالغة للآثار في دولة مثل الإمارات”. العبودي يطرح دولة الإمارات كنموذج، وإلا فإن دول الخليج امتازت بالجدّة والبكارة، فهي مناطق تاريخها الأثري لم يطمث بعد، والآثار ليست هي الموروثات الورقية أو العلمية، بل هي ما تبقى من أثر بعد انتهاء عيش جيلٍ على جبل، أو أرض أو مدينةٍ أو قرية. وإذا قرأنا عن أنشطة مؤسسات رعاية الآثار في الخليج نجدها بكل صراحة تقصّر تقصيراً واضحاً في تجديد معاني الاهتمام بالآثار، ليس على سبيل الاستفادة منها تاريخياً فحسب، بل وفي الاستفادة السياحية منها. في الإمارات والسعودية والكويت والبحرين وعمان وقطر آثار كثيرة كان يمكن أن تكون تاريخاً بصرياً نراه من خلال الآثار. لنقرأ بعض نتائج أبحاث ناصر العبودي المثيرة، يقول: “لقد اكتشفنا من خلال الحفريات واللقى التي عثر عليها أنه كانت لدينا علاقة مع وادي الرافدين، ووجدنا كتابات سومرية وأكدية في أم النار وبعض المناطق. واكتشفنا المسند الجنوبي الحميري في موقع “مليحة” بالشارقة و”الدور” في أم القيوين، كذلك وجدنا الخط الآرامي الذي يوجد في بلاد الشام، واكتشفنا خطوطاً باليونانية… لقد قدمت لنا مواقع مليحة وهيلي وأم النار والدور ومواقع أخرى في رأس الخيمة معلومات كثيرة وغزيرة عن منطقة الخليج. تل الأبرق الذي يقع بين الشارقة وأم القيوين، على سبيل المثال، كشف لنا وجود علاقات بيننا وبين الهند تعود الى ما يقارب ألفي سنة قبل الميلاد”. إنني أطالب مؤسسات رعاية الآثار العربية بالاهتمام أكثر بالآثار وعلومها، وأن يعرف أبناء منطقة الخليج من خلال هذه الآثار، أن بلدانهم ليست منبوذةً من التاريخ كما هو التشويه المتعمّد من قبل بعض المثقفين المدجّنين الذين يلمزون الخليج بأن تاريخه تاريخ جوع وعطش وابتعاد عن التأثير على مسرح البشرية والعالم. هذه الفكرة المغلوطة لن نجد وسائل إبطالها في كتب التاريخ التي لم تول منطقة الخليج ما يكفي من الاهتمام بل في العودة إلى الآثار، إلى نقوش الطبيعة وما تركه الإنسان القديم في الخليج للإنسان المعاصر وهذه لعمري مهمة عظيمة وجليلة. تركي الدخيل www.turkid.net
جميع الحقوق محفوظة 2019