أعرِفُ عبدالعزيز بن عبدالله الدريس، وإخوته الأكرمين إدريس، وسعد، وسامي، وزياد، بالفضل والنبل والخير والبر والكرم، وأذكر والدهم الأديب الخلوق، الشيخ عبدالله بن إدريس، الذي رَحَلَ عن دنيانا، فأتذكر ما قاله زهير بن أبي سلمى، كأنما يذكرهم: سعى بعدهم قومٌ لكي يدرِكوهم فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا فما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباءُ آبائِهِم قبلُ وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل!
ذهب عبدالله بن إدريس، إلى رحمة الله قبل أسابيع قليلة، بعد عمر طويل المآثر، عريض الآثار، فكان حقاً على القلم، أن يبسط طروسه، لتدوين شمائل هذا الرائد في قومه، القائم بالقسط في قوله وفعله، والمتحرك بالقيم في ذهابه ومجيئه، والمتعامل بالورع في كسبه وكدحه.
يقول الأقدمون: ما أحسن الحديث يؤتى من أوله…
فلنأتِ الحديث من أوله… من وادي الباطن في نجد، وسط السعودية… من بلدة«حَرمة» بإقليم الوشم. قبل نحو مائة عام، كانت«حرمة»، بلدة صغيرة في سدير، وادعة هادئة، ساكنة سكون النفس المطمئنة، يحيط بها سور عريض، يضفي على العيش فيها روحاً من الحميمية والألفة. يخلد الناس فيها إلى المنام بعد أن يؤدوا فريضة العشاء، ويمر المارّ في أزقتها الطينية وقت السحَر، فيسمع قرع الهاون من يمينه، ويسمع تلاوة قانت يؤدي الوتر من يساره، وينظر أمامه فيرى رجلاً في السبعين، يعتمر عمامته ماضياً إلى مزرعته. بلدةٌ تصحو مبكرة، وتنام مبكرة، ويكدح أهلها في طلب الرزق والمعيشة كدحاً شديداً، في ظرف صعب عاشت فيه نجدٌ قبل أن يفيء الله على الناس بالنفط، الذي اتسعت به الحال بعد ضيق، وأيسر الناس منه بعد إعسار.
دعوة أمّ ورجاء أب.. وطريق العلم يقوده إلى الرياض!
لما أطل عام 1347هجرية – 1928، أقبل على الدنيا طفل، سماه والده «عبدالله»، هو ضيف هذه المساحة التي تتعطر بذكره، وتتضوع بنفح أطيابه: عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس. كان استجابة لدعوة أم صالحة، دعت ذات حزنٍ في خلوةٍ، أن يرزقها الله ولداً له صيت بين الناس، بعد أن توخى حمام الموتِ ابنتها التي ولدتها قبله، وما أكثر ما كانت المنايا تتخطف الصغار في تلك الأزمنة، وما أكثر ما كانت الأوبئة تفتك بالناس، في موجات عارمات.. ويعرف الكبار من جيل ابن إدريس، تواريخ عجيبة، وسنواتٍ صعبة، كسنة الرحمة، وسنة السخونة، وسني قحط ومرض أخرى، ذهبت إلى غير رجعة، وحلّ من بعدها الرخاء، أدامه الله. كان الأب فلاحاً، وله حظ من العلم، إذ تلقى منه طرفاً على أحد علماء البلدة، وعيّنه الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن، رحمه الله، إماماً في ناحية من نواحي نجد.
لمّا بلغ الطفل عبدالله سن الدراسة، ألحقه والده بمدرسة البلدة، التي كانت تقدم للطلبة أساسيات القراءة والكتابة والحساب، إضافة إلى تعليمهم قصار السور من القرآن العظيم. وأقبل الفتى على الدرس في جد، فتميز في درسه عن باقي أقرانه، وحفظ القرآن الكريم كاملاً، وهو إنجازٌ نادر في تلك البلدة الصغيرة، حَمَلَ الأب الصالح، على أن يحتفل بنجاح ابنه، ويزفه في طرقات البلدة كما يُزَفُ العرسان، وأن يسافر بابنه ذي الاثني عشر ربيعاً إلى الرياض، ليكمل طلب العلم بها. لم يطل مقام الأب ولا الابن في الرياض، فقد رحل الأب إلى الدار الآخرة، بعد وعكة صحية، وعاد الفتى عبدالله، إلى حرمة، ليعمل مع إخوته في فلاحة النخل لسنوات ثلاث. غير أنه رأى راحته، في واحات الدرس لا واحات النخل، فاستأذن إخوته أن يكرّ إلى الرياض ثانيةً، كي يطلب العلم هناك، على يد الشيخ محمد بن إبراهيم، الذي كان مفتي الديار السعودية، وقتها.
تلميذ فأستاذ.. طالب العلم ورفيق العلماء
عامان من الدراسة الجادة على يدي الشيخ ابن إبراهيم، أعقبها تعيين ابن إدريس، مدرساً، في المدرسة الفيصلية الابتدائية بالرياض، تعلّق التلاميذ بابن إدريس، المعلم الشاب ذي النفس السمحة، الذي اتخذ الطلاب أصدقاء، حبب إليهم الدرس، وكان حازماً في موطن الحزم، عادلاً القِسمَة، مُجِدَّاً في تعليمه وتفهيمه.
لم يمض إلا عامان، حتى سمع ابن إدريس بافتتاح المعهد العلمي في الرياض، الذي كان فتحاً علمياً مبيناً في تلك الأيام، وكان يدرّس فيه نخبة من العلماء الكبار، والمثقفين المشهود لهم، فإذا بابن إدريس ينزع عنه قباء الأستاذ، ويعود طالباً، ليدرس الثانوية في ذلك المعهد، وكان ضمن مدرسي المعهد: الشيخ عبدالرزاق عفيفي، وعلّامة الجزيرة حمد الجاسر، رحمهما الله.
ولقد صارت لابن إدريس صلة بعلامة الجزيرة، منذ تلك الأيام البعيدة، لم يخرمها إلا التحاق الجاسر بركب الراحلين عن هذه الدنيا، قبل أكثر من عشرين عاماً. وفي تلك الأيام، أيام الشباب الغض، بدأ ابن إدريس يحاول الشعر ويجاهده حتى استقام له، وسلس قياده في يده.
رباه بلّغ بالسلامة زورق الحلم الجميل
فهنا أعاصير الشقاء تفحّ من خلف الأصيل
وهنا شراعي لامس الموج المجنح في ذهول
وتلفّت القلب الشجي فهاله الأمس الثقيل
فإلى الآمان لشاطئ نتنسم الريح العليل
أكاديمي ضليع وإداريّ محترف
يسمع ابن إدريس، بافتتاح كلية الشريعة في الرياض، فيلتحق بها، ويكون في طليعة الطلبة الجامعيين في تاريخ السعودية. وينال شهادة البكالوريوس عام 1376 للهجرة (1957)، ضمن أول دفعة تخرجت في تلك الكلية، التي كانت أول كلية جامعية في تاريخ المملكة، ليعمل مفتشاً في المعاهد العلمية، وضمن عمله ذلك، سافر إلى مختلف المعاهد العلمية، المنتشرة في نواحي المملكة… وكان ابن إدريس، يكتب عن رحلاته تلك، بقلم الرحالة الأديب، وينشر ما كتبه من المقالات في مختلف صحف البلاد فيمتع ويفيد… وفي رحلاته التقى عدداً من رجالات العلم والتربية، الذين تولوا إدارة المعاهد العلمية، مثل الشيخ محمد بن ناصر العبودي، الذي كان مدير المعهد العلمي ببريدة، والشيخ عبدالله القرعاوي، الذي تولى إدارة المعهد العلمي بجازان، نيابة عن تلميذه العالم الشاب، حافظ حكمي. نُقل ابن إدريس إلى وزارة المعارف، فعمل مساعداً للمدير العام للتعليم الثانوي، ثم مديراً لإدارة التعليم الفني، ولم يزل مديراً لذلك الجهاز التعليمي الوليد، يرعاه ويتعهده وهو يكبر ويتمدد… وكان له في وزارة المعارف أعمال إدارية واستشارية من دون ذلك هو لها عامل… وعلى الرغم من عدم اختصاص ابن إدريس بالتعليم المهني ولا الزراعي، إلا أن مبعوثاً أممياً جاء ليشاهد أداء هذه المدارس، وعاد شاكراً مثنياً.
عودة رجل التوازنات.. من الصحافة إلى وزارة المعارف
كان ابن إدريس، أثناء ذلك، وقبله وبعده، كاتباً معروفاً، يُدَوّن مقالاته، وقصائده، ويرسل بها إلى مختلف الصحف والمجلات في البلاد، فيتلقاها المحررون بالقبول الحسن، وتقع من القراء في موضع الترحيب… ولم تزل شخصية الإداري تنازع شخصية الأديب، حتى أُذن للشخصيتين أن تصطلحا، حين أعيرت خدمات ابن إدريس، إلى مؤسسة الدعوة الصحفية، رئيساً لتحرير جريدة «الدعوة» الأسبوعية. في «الدعوة»، عمل ابن إدريس بجدٍ، واترك ابنه الصحافي إدريس يحدثنا عن تلك المرحلة، إذ يقول: «تولى والدي رئاسة تحرير جريدة الدعوة، وجعلها في حينها صحيفة لافتة بنهجها المغاير للسائد عن الصحف الملتزمة، وتميزها أيضاً بشيء من الجرأة والشفافية، ولتميزها أيضاً بالتنوع المنسجم مع شخصيته المتسامحة، فلم تركن الدعوة إلى التقليد والمنهج النمطي السائد، ولكنها كانت فريدة في شكلها ومحتواها بصورة جعلتها صحيفة مقروءة، يُعتد برأيها ورصانتها ونوعية كتّابها. وعندما قام الوالد وزملاؤه بتبويب جريدة الدعوة في بداية صدورها وضع ضمن أبوابها الرئيسة صفحات رياضية، وصفحات للمرأة، وثالثة للطرائف والملح، ولك أن تتخيل جريدة تصدرها مؤسسة سلفية محافظة ترضى أن تركض خلف الكرة، وتخص المرأة بصفحات تهتم بشؤونها وشجونها، والثالثة أنها صحيفة جادة لكنها تدع مساحة محسوبة للطرائف والملح، أي أنها تمزح لكن بقدر لا يهز وقار القلعة الدينية في دخنة. فمن وراء ذلك؟ إنه عبدالله بن إدريس رجل التوازنات».
كان ابن إدريس رئيساً لتحرير الصحيفة، ثم صار مديراً عاماً لمؤسسة الدعوة الإسلامية، في سابقة لها أولويتها، إذ كان العُرفُ في المؤسسات الصحفية السعودية -ولا يزال- أن يكون رئيس التحرير غير المدير العام، لكن ابن إدريس فعلها باقتدار. انتهت فترة إعارة ابن إدريس إلى صحيفة الدعوة، فحلّ من جديد بوزارة المعارف، أميناً عاماً للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب، ثم ذهب إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فعمل بها بضعة أشهر، أميناً عاماً للجامعة، ثم مديراً للدراسات العليا والبعثات، وأعمال مختلفة… لكن ميدان عطائه الأكبر، كان في منصب «المدير العام للثقافة والنشر العلمي»، التي قدمت للقراء العرب عدداً ضخماً من الكتب والأبحاث والدراسات، حتى بلغ سن التقاعد، عام 1409هـ، 1988 فانصرف إلى شؤونه الشخصية والعلمية، ليواصل رحلة العطاء.
موثق آداب نجد.. ورئيس نادي الرياض الأدبي
وليس يحق لنا، ونحن نتحدث عن ابن إدريس، أن ننسى كتابه الفارق، «شعراء نجد المعاصرون»، الذي جمع فيه ابن إدريس أفضل ما كتبه شعراء وسط المملكة، الذين كانوا أحياء في زمنه.. مقدماً لما جمعه بدراسة وافية، وطلب أن يُطبع الكتاب على نفقة الملك سعود، رحمه الله، الذي اشترط أن يعرض الكتاب على لجنة، تفحصه أولاً، وتزيل منه ما لا تجده مناسباً. ورفض ابن إدريس أن يُمسّ الكتاب، وسافر إلى القاهرة، وطبع الكتاب على نفقته، وذهب به إلى رؤوس الشعراء والأدباء، مثل العقاد، والزيات، مندور، وطه حسين، وبنت الشاطئ، ونازك الملائكة، وغيرهم… ثم أصدر ابن إدريس، كتاباً عنوانه: «الملك عبدالعزيز كما صوره الشعراء العرب»، وكتاباً ثالثاً عنوانه: «الشعر والشعراء خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر»، ودواوين شعرية عدة، وكتباً مختلفةً، عدا ما أشرت إليه.
في الرياض، عاش ابن إدريس جل سنواته التي زادت عن التسعين، وكان على رأس نادي الرياض الأدبي، الذي كان واجهةً ثقافية للرياض، فنظّم فعالياتٍ لا تقع تحت عد ولا يبلغها حصر… وظل ابن إدريس رئيساً للنادي قرابة ربع قرن، من 1401هـ/1980م حتى 1423هـ/2002.
جيل التأسيس.. الأثر الباقي
ابن إدريس، أوسع من أن يحيط به مقال صغير، وأكبر من أن تحويه أسطر قليلة كهذه، فهو الإداري المحنك، والصحفي المتميز، والمثقف الموسوعي، والشاعر الرقيق، والناقد البارع، ورجل العلاقات العامة، وهو الأب الذي يذكره أبناؤه بكل خير، ويتحدثون عن مناقبه بكل فخر.. ولقد تناول سيرتَه عدد من الدارسين، في كتب ودراسات أكاديمية، وأطروحات جامعية ومقالات صحفية، وحقّ لرجل مثله: طال عمره، وحسن عمله، وتعددت ضروب إنجازاته في الحياة، حق لمثله، أن ينال التقدير، وأن تُسوَّد الصفحات في الثناء عليه، والتأمل في حالته الفريدة.
ابن إدريس، الذي نستحضره اليوم، بعد أن رحل إلى جوار ربه، فنتذكر رجلاً، من جيل الرواد، الذين أدركوا أيام ما قبل النفط، وعاصروا تأسيس البلاد، فكانوا في طليعة علماء البلاد، ومثقفيها، الذين قدّموا لها الكثير، وكانوا الشموع في ليلٍ تبدد بسواعدهم، وكانوا بشائر فجرٍ أشعلوه بجهودهم. رحمك الله يا ابن إدريس، وما مات من خَلّف أبناءً يعرفون بطيب المعشَرٍ، وحُسن الخُلُق. وهُم لكَ كما قلت، لشريكة العمر، عن صلاحهم: «هم الذخر دوماً بهذي الحياة وهم كنزنا بامتداد السنين»
* السفير السعودي لدى الإمارات.