قبل نحو سبع سنوات، كنت أسير مع أولادي في أحد الشوارع. مررنا بسيارة صغيرة، تلك التي تحمل راكبين فقط، كانت ابنتي مي، في الحادية عشرة من العمر، ركضت نحو السيارة، وقالت: هذه هي السيارة التي أتمنى أن أقتنيها عندما أكبر. شقيقها الذي يصغرها ببضع سنوات، وجد الوقت مناسباً للمناكفة، فقال: لا جدوى من الأمنية، فلا يسمح للمرأة بقيادة السيارة في السعودية، وفرَّ هارباً لأنه يعرف أن تعليقه سيستفزها حدَّ ملاحقته!
اليوم، لم تمنع حرارة الصيف اللاهب، المرأة السعودية، من الاحتفال بعيد الأضحى مرتين، وإن كانت الأعياد – كالدنيا – امرأة سعيدة… أكانت أُماً، أو زوجة، أو أختاً، أو ابنة؛ تراها فؤادك الماشي على الأرض، كما يقول أصحابنا الشعراء.
المرأة السعودية، التي كان أقصى أحلام كثير من السعوديين، دفعها لسوق العمل، وإعطاءها فرصة ممارسة ما تحب، تستطيع اليوم، أن تقطع تذكرة لتسافر، أياً كان دافع السفر، دون وصاية من أحد. وإن كان هذا الجزء من القرار، لقي صدى واسعاً، إلا أنني للأمانة، سعدت أكثر، بحقوق المرأة فيما يتعلق بالأسرة، والتبليغ عن المواليد، بل والوصاية على القُصّر، ولا أستطيع وصف سعادتي، التي بُح لأجلها صوتي.
يقول البعض إننا – في ملف المرأة بالذات – وصلنا متأخرين، لكن الجهل بالطريق الطويل، الذي قطعته المرأة السعودية أولاً والمثقفون المؤمنون بحق الأم في أبنائها، بل وفي العمل قديم قدم انتظار الخبر الذي جاء بالعيد في مطلع أغسطس (آب)، ففي لقاء قديم للزميل ميرزا الخويلدي محاوراً أستاذنا غازي القصيبي يقول ميرزا لغازي الذي كان وزير العمل حينها: لماذا أخفقت في موضوع توظيف المرأة؟ فما كان من السفير الوزير – رحمه الله – إلا أن أجاب: «إن لساني تحول إلى حبل من كثرة الحديث»، فما كان من الأستاذ ميرزا إلا أن زاد من سخونة الحوار بقوله: هل هذه الشكوى هي كل ما على النساء السعوديات توقعها من وزير العمل؟ ليقول الوزير السفير الذي تمنيت أن يكون بيننا الآن: «لو كففنا عن الحديث عن ضوابط عمل المرأة، وسعينا بهدوء وبلا ضجة إلى توظيف المرأة في الأماكن التي ترتضيها لانتهت نصف مشاكل البطالة النسائية»، وختم الحوار الذي نشر قبل أحد عشر عاماً على هذه الصحيفة بجملته الشهيرة: «هناك للأسف في مجتمعنا رجال يشعرون أن أي قدر من الاستقلالية تحققه المرأة، سواء كان مادياً أو معنوياً أو حتى رمزياً، يصيب رجولتهم في الصميم، شفاهم الله».
وللأمانة فإن تعامل السعوديين مع أمهاتهم موصوف بدقة تكفينا عن رد تهم المغرضين بأقلام غيرنا، فهذا الطبيب الأميركي د. سيمور غراي، في سبعينات القرن الماضي يقول: «السعوديون يقدسون أمهاتهم، وقد أخبرني الكثيرون أنهم لا يتركون يوماً يمر دون أن يتحدثوا مع أمهاتهم»، والحقيقة أن الرجل دون كل ما رآه بعين الطبيب الغربي المندهش، حتى إن كلاريسا ويتنبرغ، في «واشنطن بوست»، وصفت كتابه حينها «أسرار وراء الحجاب» قائلة: «لقد تمكن الطبيب سيمور غراي من أن يؤلف كتاباً جذاباً مشوقاً مليئاً بالأماكن الغامضة والمثيرة، وغنياً بالعادات الجذابة والشخصيات الفذة»، ورغم تحفظي – شخصياً – على أن يكون الطبيب المستأمن على الأعراض متربحاً من ملاحظاته داخل العيادة وخارجها، فإن المثقف الحقيقي هو من يفرح بكل ملاحظة – إيجابية أو سلبية – تقدم عن بلاده وتوثق مراحلها، فالحق باقٍ، وللكذب والتضليل رجال يردون عليه في كل أرض.
وإذا كان السعوديون في عين الغريب مع أمهاتهم هكذا، فإن المتوقع أن يكونوا ألطف من غيرهم مع أخواتهم وزوجاتهم وبناتهم بطبيعة الحال، لكن القانون حين يقدمه المشرع للمواطنين فإن المأمول منه أن يحمي أضعف المقصودين به، وقد نكون تأخرنا كثيراً في إعطاء الأم حق التبليغ عن الولادة مثلاً، ولا أريد للأمانة أن أعود لهذه الجروح التي أصبحت اليوم في السعودية الجديدة من الذاكرة، لكني مؤمن بأن أغلب السعوديين – ولا تخلو بلدة من مجانينها – قد أعطوا لأهاليهم وبناتهم حقوقاً كثيرة قد لا يتخيلها مفوض حقوق الإنسان الذي يريد أن يفصل معاييره على المجتمعات الأخرى، فقد تكون أمة من الأمم خيراً وأفضل من غيرها في جزئية معينة لكن هذا لا يعني أن الصواب جملة واحدة على مقياس – وتوقيت – الجميع، وقد تمنيت أكثر أن يكون غازي بيننا والأمير محمد بن سلمان يقول قبل ثلاث سنوات من الآن: «إن تنظيف الدرج يبدأ من الأعلى، لا الأسفل»، وما قرار الأول من أغسطس إلا استكمال لإصلاحات جذرية شاهدنا أولها، ونسأل الله أن نعيش حتى نرى مخرجات الرؤية أمامنا كي نزهو على العالمين.
أذكر قبل سبعة أعوام من الآن أن العبد الفقير حل ضيفاً – عن بعد – على عشرين سيدة من سيدات المجتمع في دار الكريمة الأستاذة مها الوابل، كان النقاش عن كتابي حينها «الدنيا امرأة»، وقد أكدت في حينها أن مخرجات ما يسمى الثورات العربية وقتها خذلت المرأة في المقام الأول، وما زلت عند قناعتي أن الملكيات المستقرة ستتقدم بخطى ثابتة في ملفات كثيرة أحدها ملف المرأة، فحين تدخل في نفق الاحتراب الأهلي وتنازع السلطة، فإن إقرار أي تشريع كالذي رأيناه في الأول من أغسطس يصبح شبه مستحيل مع كثرة أولويات المراحل الجديدة، وقلتها بصريح العبارة حينها «إن افتراض أن المرأة مكمن للشرور ولب الخطيئة لهو أصل المشكلة، وهو الذي يجعل البعض يرفض حضور المرأة في المجتمع»، وبعدها بعام واحد حللت ضيفاً على إذاعة صوت أميركا، وليس سراً أن السؤال الذي يقدم لأي سعودي في الحوارات الغربية هو وضع المرأة عندنا حينها، وقد اختصرت عليهم الموضوع فطلبت من أميرتي الصغيرة مي – وقد كانت في الصف التاسع حينها – أن تشارك في الحوار، اليوم وأنا أسمع أمنياتنا الصغيرة تلك، أمنية أن تسافر ابنتي كما يسافر ابني، أن تكمل مي دراستها كما يكمل عبد الله دراسته، ألا تشعر مي بحرج وهي ترى شقيقها عبد العزيز يعبر بهدوء في مطارات بلادها لأي جهة يريد، بينما تضطر بكر أبيها لورقة تشعرها بخوف غير مبرر في القرن الحادي والعشرين.
في رواية – الكاتبة المصرية – أريج جمال «أنا أروى يا مريم»، تحكي عن عودتها طفلة وحيدة بعد موت أبويها في حادث، لم تدرك تماماً طبيعة ما حدث إلا عندما وجدت في استقبالها بالمطار أقارب لم تعرفهم، وامتدت إليها يد أحدهم وأخذت عنها الحقيبة، لطالما تخيلت الحقيبة في نصها هذا رمزية لحياة امرأة تعود ليأخذها من يمارس عليها وصاية لا يرضاها الله ولا رسوله، وما أكثر الظلم في دنيانا!
فرحت لكل امرأة في بلادي فرحي لمي وهي ترتاح من قيد لم يطلبه الأب ولم تعترض عليه هي يوماً تأدباً واحتراماً لقوانين بلادها، وسعدت أكثر بحق كل مواطن ومواطنة باستخراج جوازه بنفسه حال بلوغه الحادية والعشرين، وأكثر من هذا حق الأم في الوصاية على قصرها. إن إقرار القوانين إقرار ضمني بقدرة المجتمعات على استيعاب الجديد في كل حين، والشعب القوي هو الذي يعالج أخطاءه ونواقصه ويلبس لكل مرحلة لبوسها، واليوم وأنا أسمع صوت مي ومداخلتها في إذاعة صوت أميركا، أريد أن أشكرها وأشكر كل امرأة سعودية، بل وأعتذر لهن جميعاً عن صوتنا الذي وإن تأخر تحقيق أمنيته، إلا أنه كان دائماً مع عمل المرأة واستقلالها وحقها في أن تكون مواطنة لها وعليها ما للمواطن وما عليه.
كثيراً تخيلت علاقة السعودي مع امرأته كعلاقتي مع ابنتي مي حين نعطيهن كل الحقوق، بينما يسألن خارج أوطانهن عن ظلمنا كمجتمع لهن، كحوار من موال شهير للأستاذ محمد عبده حين يقول في جزء منه: وحدثتها بالحب وهي مصغية، لكن المرأة السعودية في كل جهات الوطن قبل قرارات اليوم، كان لسان حالها:
أشاحت إلى الأزهار عني بوجهها
دلالاً وقالت لي: «كفى هذيانا
أتأمل مني أن أُصدّقَ بالهوى
جزافاً وعيني لم تره عيانا؟!
عيد سعيد لكم جميعاً أعزائي الرجال الجالسين بعيد واحد هذا الصباح، وتهنئتان لكل امرأة سعودية عاشت حتى رأت الأول من أغسطس، أما أميرتي الصغيرة مي، فلا أردُّ عليها إلا كما قال ابن عبده:
الحب يا مي… أعظم شأناً.
جميع الحقوق محفوظة 2019