تعددت التعريفات للثقافة والمثقف، وهذه مشكلة في التعريف كانت حاضرةً في السجال المعرفي بفرنسا، وقد أحصى مالك بن نبي العديد من الأوصاف والتعريفات للمثقف والثقافة غير أن أبسطها وأوضحها أن الثقافة هي ما يبقى في ذهن الإنسان حين ينسى كل شيء، أو على حد تعبير هيدجر، هي «الوشم» الذي يصبغ جسد الهوية الذاتية للإنسان، بينما المثقف هو الناقد الذي له رأي في المجال العام والتعاطي اليومي بين الناس والمجتمع، وهو الوسيط بين الإنسان، والمعلومة، والنظرية، والكتابة والأسلوب. تعدد النقد في السياق العربي لمفهوم المثقف كما نجده في كتابين مهمين، أولهما: صور المثقف لإدوارد سعيد، والثاني: نقد المثقف لعلي حرب، في هذين الكتابين الكثير من الفتوحات المعرفية لأصنافٍ من مغاليق التعريف، والتحديد، والوصف والتفسير. وعطفاً على هذا المدخل فإن الحراك العربي الذي بدأ منذ أربع سنوات، وأدى إلى نتائج كارثية وفرّخ جماعات أصولية، ذلك الحراك بكل تفريعاته ونتائجه كان من بين أهداف القائمين به إلغاء دور المثقف باعتبار «الناشط» صار هو البديل، فبالإمكان الاستغناء عن حسن حنفي، ونصر أبو زيد، وطه حسين، بشباب مثل وائل غنيم وأصحابه وزملائه من الناشطين، الذين يعملون في الشبكات! هكذا قالوا، ثم تحدثوا عن انقراض دور المثقف، لأنه آخر من علم بهذه الثورات، وبوصفه الشريك الأبرز في تجميد المجتمعات وحثها على الخنوع والخضوع والاستسلام. يتهمون المثقفين أيضاً بأنهم شركاء السلطات والحكومات وأعداء الحراك.. كل هذه أدبيات ثورية أنتجها ذلك الحراك. بينما وظيفة المثقف بشكل عام ليست التطبيل والتشجيع للحشود، بل انتقاد كل المظاهر التي يراها أمامه، والبحث عن المصلحة المشتركة بين المجتمعات والأفراد، الرؤية النقدية أساس التعاطي والتداول الثقافي، أما التطبيل والتشجيع والحشد فهي مهمة الحكواتيين أو الناشطين أو الوعاظ، كما يقول علي حرب في كتابه المذكور. لم ينقرض دور المثقف، بل صار لزاماً عليه أن ينخرط وباستمرار في النقد المستمر والمستديم لظواهر الجموع الضارة، والتي تأكل الأخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، وأن يباشر بمشارطه الحادة والعلمية والدقيقة بنقد الأصوليات الزاحفة، التي جاء بها «الربيع» الأصولي الدموي. إن طرح فكرة نهاية المثقفين، والثقافة يعزز من ثقافة الحشد، التي لا تؤسس إلا للتمرد والانشقاق، وتحرّض على بث ثقافة الاستئصال، والعنف، والقتل. ثم إن العلاقة بين المثقف والسلطة ليست إشكالية، بل نقرأ الكثير من الفلاسفة، وقد كانوا أصدقاء للحكام كما هو حال هيجل وكانط وروسو وديكارت، كل هؤلاء كانوا يقومون بأدوار نقدية جذرية مع الاحتفاظ بعلاقة مميزة مع الحاكم، ذلك أن الانشقاق أو التمرد عمل شعبي حشدي يعبر عن خفة في العقل وهزال في الإدراك، والكثير من الأعمال والمبادرات التنويرية تمت رعايتها من حكام وملوك، وهذا له شواهده في تاريخ البشر. لم ينقرض دور المثقف، بل ازداد، وزادت مسؤولياته والأعباء عليه، وبخاصة في هذا الزمن الكارثي، والجبهات المتعددة المفتوحة على مصراعيها في المنطقة، فالمعركة ليست مع «روم» واحد بل مع أكثر من «روم»، ويصح على هذا الاضطراب قول المتنبي: وسوى الروم خلف ظهرك روم ** فعلى أيّ جانبيك تميلُ؟
جميع الحقوق محفوظة 2019