ولا تزال من عادات معظم العرب، التطيب بالبخور، ويكثر تطييب المساجد في رمضان بالبخور، صدقة لله، وإكراماً للمصلين. قال عبدالسلام هارون، في (كُنَّاشة النوادر): تحت عنوان: [وضع المجمرة تحت الثياب] «ومن طريف ما رُوي في كتاب (الفخري في الآداب السلطانية) لابن الطقطقي في خبر مصرع أحمد بن يوسف، كاتب المأمون، قال: وكان سبب موته أنه دخل يوماً إلى المأمون والمأمون يتبخر، فأخرج المأمون المجمرة من تحته، وقال: اجعلوها تحت أحمد، تكرمة له. فنقل أعداؤه إلى المأمون أنه قال: ما هذا البخل بالبخور! هلّا أمر لي ببخور مستأنف؟ فاغتاظ المأمون لذلك، وقال: ينسبني إلى البخل، وقد علم أن نفقتي في كل يوم ستة آلاف دينار؟! وإنما أردتُ إكرامه بما كان تحت ثيابي… ثم دخل عليه أحمد بن يوسف وهو يتبخر مرة أخرى، فقال المأمون: اجعلوا تحته في مجمرة قطع عنبر، وضعوا عليه شيئاً يمنع البخار أن يخرج.
ففعلوا ذلك به، فصبر عليه حتى غلبه الأمر، فصاح: الموت الموت! فكشفوا عنه وقد غُشي عليه، فانصرف إلى منزله فمكث فيه شهوراً عليلاً من ضِيق النَّفس، حتى مات بهذه العلة». ومن الأمثال العامية في الخليج: «ما يعرف للبخور، تَبَخَّر واحترق». والصحيح أن البخور بفتح الباء، ففي (مختار الصحاح): «(الْبَخُورُ) بِالْفَتْحِ مَا (يُتَبَخَّرُ) بِهِ». ويبدو أن تأريخ البخور قديم جداً، ففي (قصة الحضارة)، لديورانت، عندما تحدث عن الإمبراطور الروماني الأول أغسطس قيصر، في عصر الرخاء، (30 ق. م-14 ب. م)، قال: «إن جماعة من بحارة الإسكندرية نزلوا في بتيولي، وكان أغسطس قريباً منها، فأقبلوا في ملابسهم الزاهية، وأهدوا إليهِ البخور كما يهدى البخور إلى الآلهة».
وفيه دلالة على أن البخور موجود قبل الميلاد. ويذكر «شبرنجر في جغرافيته القديمة للجزيرة العربية أن تاريخ التجارة الأولى، هو تاريخ البخور، وأرض البخور هي بلاد العرب»، وفقاً ليوسف خليف، في كتابه: (الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي). أما الدكتور جواد علي، في (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)، فيقول: «في كتاب (تأريخ الإسكندر) لـ«كوينتس كورتيوس»، خبر يفيد أن«الإسكندر أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور لإحراقها للآلهة تقرباً إليها، غير أننا لا نستطيع تصديق هذه الرواية، لأن جيوش الإسكندر لم تتمكن من دخول جزيرة العرب، ولم تصل إلى أرض البخور. إلا أن يكون حكامها قد أرسلوا البخور المذكور هدية إليه، أو ضريبة من التجار العرب في مقابل السماح لهم ببيعه في الأسواق التي استولى عليها اليونان».
ويعقد فصلاً في كتابه، عن [البخور والمباخر]، قائلاً: «وللتبخير شأن كبير في أداء الفروش في المعابد، إذ لا بد من حرق البخور فيها، فيبخر بها المذبح والأصنام كما يبخر القائمون بأداء تلك الفروض. وتسمى المبخرة بـ«مسلم»، وبـ«مقطر»، وذلك في لغة بعض الجاهليين و«المجمرة» والمجمر، الموضع الذي يوضع فيه الجمر بالدخنة للتجمير.
وقد أشير إلى المجمرات والمباخر في كتابات المسند. وعثر المنقبون على نماذج منها، قدمها الناذرون نذوراً إلى آلهتهم، وقد وضعوها في معابدها، وهي في جملة الهدايا المرموقة التي تقدم إلى المعابد من أحجار، وبعضها من معدن بذل جهداً في صنعته وفي زخرفته، حيث يكون هدية قيمة تكون خليقة بوضعها في المعابد، وقد كان الناس يأتون بالمجامر ليجمروا بها الكعبة تقرباً بعملهم هذا إلى الأصنام، وذكر أن حريقاً أصاب الكعبة، بسبب تطاير شرر من مجمرة امرأة جمرت البيت، فأصاب ستار الكعبة، فاحترق.
والتجمير هو من شعائر التقدير والتعظيم. وهو مما يدخل في الطقوس، وقد صرفت المعابد القديمة أموالًا على شراء«العود» وغيره لإحراقه في المجامر، لتطييب المذبح والمعبد به. وكان البخور مما يبخر به في المعابد أيضاً. وقد استعمله الجاهليون في بيوتهم المعظمة كذلك». وبعد أن تحدث عن تاريخ علاقة العرب بالرومان، قال: «كان البخور رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة في ذلك العهد، كان سعره يساوي سعر الذهب والبترول في هذه الأيام. ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية التي تستنزف القسم الأكبر منه، والملوك والأثرياء، وذلك لحرقه في المناسبات الدينية وفي اجتماعاتهم.
ونجد المؤرخ الكاتب«بلينيوس» يشتكي من تبذير«نيرون» عاهل «رومة» «54- 68 م» من إسرافه في حرق البخور واللبان لإجراء شعائر جنازة زوجه المتوفاة، فقد كلف حرق تلك المادة الضرورية في مثل هذه المناسبات خزينة ثمناً باهظاً لارتفاع أسعارها في ذلك الزمن». والأكيد أن معظم تاريخ البخور مرتبط بالشعائر الدينية، وهو زكي الرائحة، إن استخدم للتعطر، ونشر عبق رائحته. أما استخدامه لطرد الجن، أو الأرواح الشريرة، أو للتفاؤل والتشاؤم، ونحوها، فهو هدرٌ للمال، والعقل، والدين. كفانا الله وإياكم الشرور، ومتعنا برائحة كل طيب وبخور.
* السفير السعودي لدى الإمارات.