تغنى المثقفون بالألم، وعظّموه وبجّلوه، وكأنه هو صانع الإبداع الوحيد!
أعرف جيداً أنّ الكثير من العباقرة في الفنون والعلوم عانوا كثيراً من الآلام، وكانت تلك الآلام مؤثرة على إبداعهم بشكلٍ أو بآخر، لكن ذلك الألم ليس عامل الإبداع الوحيد، بل توافرت مجموعة من الشروط الأخرى والحوافز المختلفة والمتعددة التي ساعدت في نمو بذرة الإبداع فأزهرت براعمها. ولعل “الاهتمام” هو الدافع الرئيسي للإبداع، ولدى أستاذنا إبراهيم البليهي كتاب خاص عن هذا الدافع سيدفعه قريباً للطباعة، ويرى فيه أنّ عبقرية الاهتمام هي ركن الأركان في ولادة المبدع.
العامل الآخر والضروري أن ينفكّ الإنسان من البرمجة الاجتماعية الخانقة، يعتبر البليهي أيضاً أن “الأفراد في أي مجتمع محكومين بمنظومات من القيم والتصورات والممنوعات والاهتمامات، فلا يفكرون إلا بواسطتها، فهي التي تحدد لهم المقبول والمرفوض، وهي التي تعرف لهم الشريف والوضيع، وهي التي تحدد الأفضليات، وتؤكد على المهم وغير المهم والأكثر أهمية، فالإنسان يتبرمج في طفولته ثم تسيره هذه البرمجة تلقائيا، فالأفراد يتشكلون بالامتصاص التلقائي، فعلى سبيل المثال الطفل الياباني يمتص من أبويه وأسرته وبيئته كل ما تعج به البيئة اليابانية ومحالٌ أن يفاجئ أهله، وهو لم يغادرهم ولم يعش في بيئة أخرى، بأنه يتكلم غير لغتهم أو يدين بغير دينهم، فهو نتاج تلقائي للقوالب الثقافية التي صاغته، فإذا كبر فقد يتكلم لغات عديدة لكن طريقة تفكيره ومنظومة قيمه واهتماماته وتفضيلاته وأسباب القبول أو الرفض عنده ستبقى كما هي مهما تنقل في العالم، إلا في حالات نادرة يستطيع الفرد النابه أن ينفك من برمجة الطفولة”.
قال أبو عبدالله غفر الله له: وأحسب أن ما يدفع نحو الإبداع أكثر من أيّ شيء آخر أن نتجاوز فكرة الألم ونستبدلها بالفرح، ولهذا يقول الفيلسوف برغسون: “حيثما وجد الفرح وجد الإبداع”. أرى –أيها السادة- أننا بالغنا في تعظيم الألم، وربطه بالصدق في الأسلوب والشفافية في الإبداع، ومع إيماني العميق بأن الألم يصنع فرقاً في الرؤية، إلا أني أدعو إلى إنصاف “الفرح” و”عبقرية الاهتمام” و”الانفكاك من البرمجة”. تلك العوامل ضرورية وملحة، وهي أكثر تحفيزاً على الإبداع من كل الآلام. أيها السيدات والسادة، انثروا الفرح، وسترون كيف تحصدون إبداعاً.