لو سألنا الطفل الواقف في طرف المجلس، وهو يرقب الرجال لابساً شماغاً أطول منه، وربما تخصص بصبّ القهوة للمعازيم، لو سألناه عن هوايته التي يريد أن يكون عليها حين يكبر، لقال لك: “طيار، وربما طبيب، أو عسكري”، ولعله تمنى أن يكون مهندساً. هذه تخصصات ممتازة ومحترمة، وكل المهن عظيمة عندي، لكنني أتساءل عن الطفل نفسه: هل وعى بالفعل أن هذه هي موهبته، أم إنه يردد جواباً يتلقاه من القنوات التي تنشر لقاءات مع الأطفال، ويكون إمعة يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته من دون تأملٍ أو تدبر؟! وأن يكون طفلٌ إمعة فهذا طبيعي، لكن المصيبة أن تكون الأسرة إمعة، وأن تكون سياقاتنا الاجتماعية، كلها، لا تتقن شيئاً كصناعة الإمعات!
الواقع أن الأسر العربية في كثيرٍ منها تهمل اكتشاف مواهب الابن من الصغر، ربما كانت موهبة الابن في الفهم أكثر منها في الحفظ، لكن الأسرة يذهب بالها إلى أن هذا الطفل “مخه ضعيف”، لأنهم لم يختبروا فهمه في مسائل الرياضيات أو سواها من مواد تعتمد على الفهم. يغلب على الأسر أنها تعتبر الابن الحافظ نابغة زمانه، وحين يكون الحفظ صعباً عليه يشكون إلى الله من حظّ هذا الابن العاثر، فيحطمونه ليترك الدراسة، ويكره كل العلم والمعارف، والتحطيم هو آفة التعليم، بل هو آفة التربية، ولو قلت إنه آفة الإنسانية لما كذبت، وسببه عدم إدراك موهبة الطفل الحقيقية، وعدم الالتفات إلى تنميتها!
“نوبو أكي نوتوهارا” في كتابه الذي أعود إليه مرةً ثانية لجماله، وأعني به: “العرب وجهة نظر يابانية” يقول: “المجتمع العربي عامةً ليس عنده استعداد ليربي المواهب ويقويها، الأمر مختلف عندنا في اليابان، لأننا نعتبر الموهبة الفردية قدرة تحقق نجاحاً في حياتنا، ولذلك يراقب الوالدان الطفل ويدققان في قدراته في الموسيقى والعلم والرياضة، هذه ظاهرة اجتماعية في اليابان، كل والدين يرقبان، يبحثان عن بعدئذٍ.. يقدمان كل إمكاناتهما لدعم موهبة الطفل، في مجتمع البدو مستقبل الأطفال واضح، الولد سيصبح راعياً والبنت عروساً، أما في مجتمع الفلاحين فالأمر متروك للمصادفة”.
من الممكن أن نختلف مع بعض مضمون النص المنقول، لكن الأكيد أن اكتشاف المواهب لدينا ضعيف، وغالباً ترتبط المواهب بالمحفوظات، حين يحل أي طالبٍ مسألة رياضية معقدة، لا يلتفت إليه الزملاء في الصف كثيراً، لكن حين يتلو الطالب حفظاً أي قصيدة طويلة يرونه عبقرياً مصقعاً، مع أن الحفظ مع أهميته، تضاءلت قيمته، مع وجود السيديات وكروت الذاكرة التي باتت بحجم الأظفر، وبذاكرة تعادل آلاف المجلدات حجماً.
نموا قدرات أطفالكم، فهم المستقبل، لا بل هم الدنيا، وزينتها، ولا شيء أمتع في هذه الدنيا من طفل ناجح، فهو عنصر المجتمع الناجح.