ربما كان أكثرُ الأشياء التصاقاً بجائحة فيروس كورونا (كوفيد – 19)، هي الكمّامَة؛ التي باتت الدلالةَ الأبرزَ على جائحة قلبت الدنيا وجهاً على عقب. ولا يتوقع المختصون أن تغادرَنا قريباً هذه الزائرة، التي لا حياءَ عندها ولا خجل؛ «كورونا»!
ويقول آخرون: حتى لو خفَّ أثرُ الجائحة، فستبقى الكمَّامَات، تُغطِّي وجوهَ الكثيرين في المستقبل.
هذه التحليلات ذكرتني بزياراتي لليابان، إذ كان يلفتني أنَّ نسبةً كبيرة من اليابانيين ترتدي الكمامات، أو الأقنعة الطبية، من دون أن يكون البلد مصاباً بوباء! كان هذا قبل أن يعاقرَنا سيّئ الذِكر؛ فيروس كورونا، ونسله من المتحورات والمتحولات.
وبما أنَّ اليابانيين، قومٌ ابتلاهم اللهُ بالنظام، وأَنْعِم بهذه البلوى، فاعتاد كثير منهم ارتداءَ الكمامات منذ عقود، فإنَّهم لم يمتعضوا – فيما أحسب – من ارتباط كورونا بالكمامات، ولا أظنُّهم سيفعلون مع تأخر استخدام الكمامات. فما قصة اليابان مع الكمامات، ولم يلبسْها اليابانيون، حتى بلغ حجمُ سوق الكمامات في 2013 ما يزيد على 200 مليون دولار؟
عام 2017 كتب عقيل بوخمسين، في «العربية. نت» أن اليابانيين «بدأوا لبس الأقنعة الطبية عام 1918 مع انتشار ما عرف وقتها بجائحة 1918 أو الإنفلونزا الإسبانية، التي انتشرت في أوروبا والعالم وقتلت من الناس أكثر ممن قتلوا في الحرب العالمية الأولى. وفي 1923، ضرب زلزال كانتو اليابان، وتسبب في تهدّم نحو 600 ألف منزل في معظم أرجاء البلاد، وكان للدمار الذي خلَّفه الزلزال سببٌ كبيرٌ في تلوث سماء اليابان، فلجأ أهلُها للبس الأقنعة مجدداً. بعد ذلك نشط استخدام الأقنعة مجدداً عام 1950 بالتزامن مع الثورة الصناعية في اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تلك الثورة خلفت تلوثاً كبيراً جعل من لبس الأقنعة عادة عند اليابانيين. وفي تاريخ اليابان الحديث، ارتفع استخدام الأقنعة الطبية ثلاثة أضعاف بسبب المخاوف من الإنفلونزا في 2009، والقلق بخصوص الانبعاثات النووية بعد زلزال 2011. موسمياً مع حلول الربيع، يحلُّ موسم تفتح زهرة الساكورا، اليابانية الشهيرة، فتنتقل بذورها في الجو، ما يسبب الحساسية لكثير من اليابانيين، فيلجأ كثيرٌ منهم للبس الأقنعة لتفادي الحساسية».
ويُعتقد أنَّ بداية استخدام القناع الطبي، مع جائحة «الطاعون الأسود»، بأوروبا (1347 – 1352م)، التي قتلت نحو 25 مليون شخص، إذ بدأ الأطباء يرتدون أقنعةً للوقاية من العدوى، لكنَّها كانت بمنقار طويل، توضع داخله أعشابٌ ونباتاتٌ، يعتقدون أنَّها تُسهمُ في منع انتشار المرض، الذي عدّوه ينتقل مع الهواء.
ثم تطوَّرَ القناعُ مع الوقت، حتى أصيبَ العالم بجائحة الإنفلونزا الإسبانية في 1918، التي قتلت أكثرَ من 50 مليون إنسان، فانتشر استخدامُ الأقنعة الطبية لعامة الناس، للوقاية من الإصابة بالجائحة، آنذاك كان شعار كثيرٍ من الحكومات، للتوعية ضد المرض: «ارتدِ قناعاً، وأنقذْ حياتك». وما أشبهَ الليلةَ بالبارحة، فالشعار عاد مع كورونا بعد أكثر من 100 عام، إذ ما زالت الحكومات تدفع حد الإجبار – أحياناً – الناس لارتداء الكمامات، في مواجهة الجائحة الحالية.
حديث الكمامات، والأقنعة، يُذَكِّرني بالشاعر العربي العظيم؛ المُقَنَّع الكندي (ت 70 هـ – 689 م)، أحد نجوم العصر الأموي، وهو من رؤوس قومِه، وكان يرتدي القناعَ طوال حياته، فعُرِفَ بالمقنع، وإلا فاسمه: محمد بن عميرة الكندي. في كتابه «الشعر والشعراء» قال ابن قتيبة (ت 276 هـ)، إنَّ المقنع: «كان من أجملَ الناس وجهاً، وأَمَدَّهُم قَامَةً، فكان إذا كشف عن وجهه لُقعَ، أي أُصيب بالعين، فكان يتقنّع دهرَه، فسُمّي المقنّع». ويعتبر الجاحظ «القناع من سمات الرؤساء».
ومن دُرر الشاعر الكندي، الذي لا يخلع كمّامته، قوله في قومه:
وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِف جِدّا
أَراهُم إِلى نَصرِي بِطاءً وَإِن هُمُ دَعَوني إِلى نَصرٍ أَتَيتُهُم شَدّا
فَإِن يَأكُلوا لَحمي وَفَرتُ لُحومَهُم وَإِن يَهدِموا مَجدِي بنَيتُ لَهُم مَجدَا
وَإِن ضَيَّعوا غَيبِي حَفِظتُ غُيوبَهُم وَإِن هُمُ هَوَوا غَيِيِّ هَوَيتُ لَهُم رُشدَا
وفي القصيدة، بيتٌ ينضحُ حكمةً، هو:
وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِمُ وَلَيسَ كَريمُ القَومِ مَن يَحمِلُ الحِقدَا
ولما كان المُقَنّع إماماً في البذل، شرحه قائلاً:
لَيسَ العَطاءُ من الفُضولِ سَماحَةً حَتّى تَجودَ وَما لَدَيكَ قَليلُ
ومن بديع شِعره:
وَما المَرءُ إِلاَّ حَيثُ يَجعَلُ نَفسَـهُ فَفِي صالِحِ الأَعمالِ نَفسكَ فَاِجعَلِ
تُرى، هل كان المقنعُ الكنديُّ؛ الشاعرُ الفحلُ، الزعيمُ الشهمُ، الشريفُ الكريمُ، يوجهُنا – اليوم – بحكمتِه، بارتدائِه القناع طوالَ حياتِه، من حيث لا يدري، إلى ارتداءِ الكمّامة، ليُكسِبَ هذا السلوك، الناس كُلهمُ حَمْدَا؟!
جميع الحقوق محفوظة 2019