من له عناية بالشعر، يعرف أن بلاط الملوك والخلفاء في تاريخ العرب، كان يزدحمُ بشعراء يتحينون فرصة، ينشدون فيها شعرهم، أمام الخليفة، بُغية صناعة مجدٍ معاصرٍ، وتخليد التاريخ، وقبل ذلك كُله، الظفر بأُعطيات الأمراء، مكافأة لما جادت به قرائحُ الشعراء ثمة من نقد الظاهرة السابقة، وازدرى أصحابها؛ فقد أهانوا – بنظرهم – الشعر، وبخسوه ثمنه، وهبطوا بمنزلة الأدب وأربابه.
أما العبد الفقير إلى ربه، فيحسبُ الرأي السابق اختزالاً للظاهرة، وتبسيطاً مخلاً لموضوع، جدير بالدرس والفحص، دون إغفال اختلاف البيئات الثقافية تاريخياً، وتباين أنماط الحكم زماناً ومكاناً.
ظاهرة تزاحم الشعراء على دواوين الخلفاء، تعكس احتفاء رأس السلطة بالشعر، وعادة ينعكس اهتمام كبير القوم، على عامتهم، فيتابعونه في الاهتمامات، و«الناس على دين ملوكهم»… ناهيك عن قيمة الشعر، ومكانته الرفيعة عند العرب، على مر العصور. فلم يكن شيء يدعو القبائل العربية للفخر، مثل بزوغ نجم شاعر من أبنائها.
اهتمام العرب القديم بالأدب والشعر، وإن لم ينقطع، إلا أنه أنتج بالطبيعة، تأثر الملوك والخلفاء بالشعر، لدرجة نظم الشعر، فمنهم من عرض بضاعته على العامة، وأجاد، فتفوق على غيره، ومنهم من احتفظ بنتاجه فبقي محدود الانتشار. الفئة الثانية، أعرضت عن نشر شعرها، خشية النقد، أو ترفعاً عن الشعر، وفيه يقول الإمام الشافعي:
ولولا الشعرُ بالعلماءِ يُزري لكُنتُ اليومَ أشعرَ من لبيدِ
وعدد الملوك والخلفاء الشعراء ليس بقليل، فقد صُنفت كتب خاصة بهم، فذكرت أسماءهم، وأوردت أشعارهم، وعرضتها على مشارح النقد.
وقد وقفت متأخراً على حديث صحافي، يُظهر اهتماماً لافتاً بالشعر، عند ولي العهد السعودي، آنذاك، الأمير (الملك) فيصل بن عبد العزيز، عناية، تشبه اهتمام المختصين.
الوجيه السعودي الشهير، عبد المقصود خوجة، شفاه الله، خلال تكريم ضيف «الاثنينية»، وهي الصالون الأدبي الأسبوعي الذي قدمه خوجة على مدى ثلاثة عقود، محتفياً بأكثر من 500 مبدع، فاجأ الكثيرين بإعلانه أنه أجرى حواراً صحافياً، نشر في أول عدد نشر من «عكاظ»، 28 مايو (أيار) 1960، مع الأمير فيصل، ولي العهد.
بحثت عن الحوار، ولك أن تتخيل حجم السعادة التي تنتابك عندما تقف على معلومة، لا قِبل لعلمك بها، وهذا ما حدث عندما وجدت الحديث، وقرأته بتمعن، وأظن ظناً يقارب اليقين، أن إجابات الفيصل، كانت مرتجلة، يقولها بعد السؤال مباشرة، دون سابق إعداد.
ولفتني سؤال عبد المقصود الأخير للأمير – الملك لاحقاً -، وفيه: «سألتُ سموه عن الشاعر الذي يُعجب به؟ فقال: ليس شاعراً واحداً! هناك شعراء كثيرون أُعجب بهم، وأستشهدُ بشعرهم، وأحتفي بهم، وأقرأُ شعراء جميع العصور، ولكن الشاعر المُفَضل عندي هو طرفة بن العبد، وإنه لأثير إلى نفسي، لأنه شاعر مبدع، رائع الأسلوب، قوي الأداء، حَسَنُ السبك، كثيرُ الحركة، ولشِعره موسيقى خاصة به، تُميز شعره عن زملائه الجاهليين، وهو إلى جانب ذلك؛ بليغٌ. وإذا كان أسلوب طرفة، يمتاز بالإشراق، والحيوية، فإن (المضمون) أو (المحتوى) بتعبير هذه الأيام، يمتازُ بأنه مُنتزعٌ من صميم البيئة، ومن أحداث الحياة، في ذلك الزمن. إن لشعرِ طُرفة، لحلاوة، ومذاقاً، ويصلح لأيامنا هذه، لصِدقِهِ في التجربة، وصِدقِهِ في الشعور والتعبير، ولخُلُوه من وحشية الجاهلية، وجلافة الأعراب، وبداوة القدامى».
ربما لا يعلم كثيرون، أن الملك فيصل، رحمه الله، كان شاعراً مجيداً، للشعر العامي، ويُنقَل أنه كان إذا أعطاه شاعرٌ قصيدة مديح مكتوبة، قلب صفحتها، وكتَبَ أبياتاً يرد بها على الشاعر، على نفس قافيته، ثم دفع بالورقة إليه.
ودليل تميز شعر الفيصل، إتقانه أحد أنواع الشعر في الجزيرة العربية، وهو شعر المحاورة، ويُسمى الرَدِية، أو القلطة. وفيه يتقابل شاعران، فيُلقي أحدهما أبياتاً مرتجلة، تفيض بها قريحته لحظتها، ويخاطب بها خصمه، وتتكون من بيت أو بيتين، ثُم ينشدها صَفٌ من الرجال، يقفون خلفه، ملحنين الأبيات على لحن الطرق، فإذا انتهوا، ألقى الشاعر المقابل أبياتاً مرتجلة بنفس قافية ووزن شعر خصمه، ترد غالباً على المعنى الخاص أو العام الذي طرحه قبيله. ولا يُحسن هذا الفن، إلا الشاعر المطبوع، سريع البديهة، ثري اللغة، غزير المعاني.
أما طُرفة بن العبد (ت 695 م)، فهو الشاعر الجاهلي المبدع، وأحد شعراء المعلقات، وهي أشهر شعر العرب، توفي عن 26 عاماً! يقول عنه ابن دُرَيد (ت 321هـ): «هو أَشهرهم، إذ بلغ بحداثة سِنه، ما بلغ القَومُ طِوَالَ أَعمارهم».
ومن دُرَرِه، طرفة، مادحاً:
لا يُقالُ الفُحشُ في نَادِيهمُ لا ولا يَبخَلُ مِنهُم مَن يُسَل
وقوله:
وظُلمُ ذَوِي القُربَى أَشَد مَضَاضَة على النَفسِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَندِ
ولطرفة شعرٌ بات مثلاً سائراً:
ستُبدي لَكَ الأيامُ ما كُنتَ جاهِلاً ويأتِيكَ بالأَخبارِ من لَم تُزَودِ
وفي الحديث أن عائشة رضي الله عنها، أخبرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بعجز بيت طرفة السابق.
ومن حكمته:
وَالصِدقُ يألَفُهُ الكريمُ المُرتَجى والكذبُ يألفُهُ الدَنِيءُ الأَخيَبِ
وله بيت شهير، قلما نُسب له:
إذا كُنتَ في حَاجَة مُرسِلاً فأَرسِل حكيماً ولا توصِهِ
ومن غرائب طرفة، أن شهرته كانت بشعره، ومن أجل شعره لقِي حتفه، والمصادفة أن يكون فيصل، المعجب بطرفه، لقي حتفه، بسبب موقف اتخذه بمهنية، مثلما حصل مع طرفة!
منذ طُرفة، إلى فيصل، مروراً بآلاف المبدعين، تبقى للكلمات قيمة، وللمعاني عزيمة، ولا يأخذ بتلابيب الناس، كشعر مسبوك، وقصيدة جياشة.
ولذلك أنشد أبو تمام:
ولولا خلال سَنَها الشِعرُ ما درى بُغاة العُلا من أين تُؤتى المَكَارِمُ
جميع الحقوق محفوظة 2019