يعتقد البعض أن تراث العرب والمسلمين، طوال القرون الماضية، لم يكن إلا تاريخاً متراكماً، من السجالات الفقهية، أو الصراعات العقائدية! مرد ذلك لتضخم ذلك الإنتاج السجالي، وارتفاع صوته، حتى بات حاجباً، يمنع من الوقوف على نماذج لمؤلفات باهرة، وإنتاج فكري ثري في الأدب والفلسفة.
في تاريخنا، بلغت المعرفة الإنسانية مستوى متطوراً، بالقرن العاشر الميلادي، مع ما عُرف بـ«جيل ابن مسكويه والتوحيدي»، حسب تسمية المفكر الجزائري الأصل، محمد أركون، رحمه الله. اختار أركون أطروحته للدكتوراه، لتكون عن نزعة الأنسنة في التراث الإسلامي، بدءاً من ابن مسكويه، ليتبعه أبو حيان التوحيدي، في عمل أنصف علمائنا الكبار، وبخاصةٍ، كتاب: «الهوامل والشوامل»، الذي سكّ أسئلته التوحيدي، مُشبهاً الأسئلة بهوامل الإبل التائهة، وأجاب عنها ابن مسكويه، بالشوامل، وهي تشبه الإبل التي ضُبطت وشُملت، بعد طول همل.
أهمية الكتاب، عدا عن تغطيته لما يجول من جو معرفي في تلك الحقبة، تكمن في خصلتين: العقلانية، والخطاب الإنساني، ما يجعل الإنتاج أدوم، وأرحب في استهداف فئات من البشر، تتجاوز خطاباً خاصاً بدين واحد فقط، باتجاه مشترك إنساني واسع. لذا يجيب ابن مسكويه عن أسئلة عقلانية علمية، مثل سبب عدم نزول الثلج بالصيف، بطابع علمي، ضمن ممكنات ذلك الزمان.
«الهوامل والشوامل»، مثال ناصع وفصيح لنزعة الأنسة، في الفكر العربي والإسلامي، فاعتبر أركون، للكتاب طابعاً فلسفياً خُلع عليه، نصيب التوحيدي من هذا الطابع، كان كبيراً في الكتاب الذي يحوي 175 مسألة، وإن لم تكن متساوية الطول والأهمية، فإن الهيئة الحوارية للمصنف، تُؤَمِن له الحيوية والحركة والمتعة إلى درجةٍ، لا يخاتل القارئَ فيها الملل. بل، ربما يشعر القارئ، أنه يغشى إحدى المذكرات الشائعة، في القرن الرابع الهجري، تلك التي تدور بين مختلف العلماء، في مجالس النبلاء أو الأمراء. ولذلك يُعتقدُ، أن ابن مسكويه، سلك منهجاً جديداً في التصنيف، وطريقةُ عرضِ حديثه، بغية إنجاح الكتاب، وإكثار تداوله، وحذفه مقاطع من نص التوحيدي، دليلٌ أنه كان المتكفل بإظهار الكتاب بحلة جديدة، وأسلوب حديث، بحسب أركون.
لم يكن إٍسهام التوحيدي محصوراً على توجيه بأسئلة مكتوبة، بل رسمت أسئلته منهاج الكتاب كله، ومن يطلع على الأجوبة، يجد أن ابن مسكويه، لم يكن ليجيب بغزارةٍ وأناة، لو لم تكن الأسئلة على مستوى من الامتلاء، ما يؤدي إلى استثارة المسؤول، واستخراج درر إجاباته، خلافاً لكون موضوعات الأسئلة، كانت خارج نطاق التداول الاجتماعي أو النخبوي في ذلك الزمن، مع اعتبار محاولات البويهيين، إعلاء شأن العلوم والفلسفة، وبخاصة عضد الدولة، الشغوف بالفلسفة.
ولذلك يُعتبر الكتاب، بأسئلته وأجوبته، عملاً متكاملاً، بين علمين، قام كلٌ منهما بدوره، كما ينبغي، فلم تُنقِص طول أجوبة ابن مسكويه، من قيمة استفهامات التوحيدي، حتى وإن حُذف السؤال، لأن صداه بينٌ لقارئ الإجابات.
بقي التوحيدي، بإسهاماته القليلة، علامة فارقة، في تاريخنا العربي والإسلامي، فكتابه: «الإمتاع والمؤانسة»، يحوي تجربة علمية بديعة، هي عصارة سبع وثلاثين جلسة، جمعت أبا حيان، مع الوزير أبي عبدالله العارض، وأهداها لصديقه أبي الوفاء المهندس. الكتاب سابق لزمانه وتاريخه، بما احتوى من حكم مرصعة، وغزارة معرفية وفلسفية، يكتنزها أبو حيان التوحيدي، تُمكِن القارئ لينهل من معين فوائد الكتاب، ويغوص في معارفه الجمة، ومسائله المهمة، التي لا يزال بعضها فاعلاً، حتى يومنا هذا، مثل تطرقه للحديث الآسر، والكلام الممتع، وبيان سر عدم السأم، من القول الجميل.
أركون، سافر رفقة التوحيدي طويلاً، منذ أسئلة «الهوامل والشوامل»، مروراً، بـ«الإمتاع والمؤانسة»، ثم «البصائر والذخائر»، ليقف على تشابهٍ بينه وبين أبي حيان، إذ قال: «من دون أدنى شك، التوحيدي أدى في حياتي الشخصية، دوراً لم يؤده غيره، يمكنني أن أقول: إنه أخي، إنه أبي، إنه شقيقي… التوحيدي كان فناناً حقيقياً، قِلّة من الكُتّاب العرب يستطيعون أن يضاهوه، أسلوباً وجاذبيةً في التعبير. إنه بلا ريب أحد كبار كُتّاب النثر العربي، على مر العصور».
تلك لمحة لوجه مشرق من تراثنا المليء بالتجارب العلمية الإنسانية، خارج سياق الصراعات المذهبية، والمعارك الكلامية، والبحث عن الغلبة، والانتصار لشهوة الذات!
جميع الحقوق محفوظة 2019