القراءة الفاحصة -لمسيرة الثورات العربية التي تجري اليوم -بدأت تؤتي أكلها كل حينٍ من خلال الأبحاث التي تصدر والكتب التي تفرزها المطابع وتحتفل بها المكتبات؛ ذلك أن حدثاً بمثل خضة 2011 لا يمكننا أن نعتبره إلا حدثاً تاريخياً بامتياز، وإن اختلفنا مع بعض مجرياته، غير أن التحليل هو الذي يقودنا إلى إيجابيات الحدث وسلبياته أكثر من الكلام العاطفي السهل سواء في خانة الـ”مع” أو في خانة الـ”ضد”. ولعلي أقف مع كتابٍ جديد للمفكر اللبناني علي حرب، صدر حديثاً يناقش فيه الثورتين التونسية والمصرية، وأطلق على كتابه اسم”ثورات القوة الناعمة في العالم العربي”. يرى حرب إنه لم يكن في حسابه إصدار هذا الكتيب عن الثورات الجارية في أكثر من ساحة عربية، فما يضمّه من مقالات متفرقة هو قراءات من مداخل متعددة وزوايا مختلفة، في الأحداث المتسارعة والمتلاحقة، بمفاجآتها وصدماتها، بتداعياتها ومفاعيلها. وقد وجد أن جمعها في كتاب يشكل مساهمة قد تُغني المناقشات الدائرة، عربياً وعالمياً، حول ما يشهده العالم العربي من تحوّلات وانعطافات تنقله من عصر إلى آخر، لِتغيِّرَ وجهَ الحياة فيه، وتحرّره من أسر التاريخ وحتمياته ولتشرِّع أبواب المستقبل وتفتح آفاقه. مصطلح “القوة الناعمة” امتازت به ثورتا تونس ومصر حيث لم يشهدا المزيد من الخسائر، على عكس الدماء التي سالت في ليبيا أو في اليمن أو في سوريا، والكتاب صدر ليناقش ما جرى في تونس ومصر حصراً، لهذا يمكن اعتبار الثورة الناعمة قد انتهت بثورة مصر، وبدأت بعد ذلك الثورات الخشنة وبقوة، غير أن علي حرب في كتابه يؤكد على أن الثورة في مصر وتونس نجحت بأقصى سرعة، وبأقل الخسائر في الأرواح والأرزاق، في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها: سقوط النظام السياسي. الحد الأدنى، لأن ما يُنتظر من الثورة هو أن تغيِّر النظام الفكري بعدّته وعاداته وآلياته، كما رأى أن ما يشهده العالم العربي هو انتفاضات متعددة الأبعاد. إنها انتفاضات مدنية وسياسية واقتصادية، بقدْر ما هي تقنية وعقلية وخلقية، وهي إلى ذلك عالمية بقدر ما هي عربية. إنها ثورات فكرية تجسّد نموذجاً جديداً تتغير معه علاقة الإنسان بمفردات وجوده، بالزمان والمكان والإمكان، كما بالواقع والعالم والآخر، فهي أتت من فتح كوني جسّدته ثورة الأرقام والمعلومات التي خلقت أمام الأجيال العربية الجديدة إمكانات هائلة للتفكير والعمل على تغيير الواقع، بتفكيك الأنظمة الديكتاتورية وخلخلة المنظومات الأصولية. وإذا كان السؤال الأساسي الذي يتبادر إلى كثيرٍ من الأذهان يتعلق بسؤال حول المآلات السياسية التي يمكن أن تثمر عنها هذه الثورات يخلص الكتاب إلى أن هذه الثورات ستُفضي إلى تشكيل عالم مختلف تتغير معه برامج العقول وخرائط المعرفة وقواعد المداولة، وتتغيّر اللغات والعقليات والحساسيات، بقدر ما تتغيّر طرق إدارة الأشياء وممارسة السلطات وسَوس الهويات. الأحداث الجارية حالياً لا تحتاج فقط إلى كثيرٍ كلام سريع، أو إلى صيغٍ إنشائية مكررة، بل تحتاج أيضاً إلى دراسات مركزة تكون فيها الثورات بكل ما تحمله من تعقيدات سياسية، ومن علاقات اجتماعية، ومن آثار اقتصادية مكاناً لاختبارات الباحثين وتأملاتهم، وأحسب أن كاتباً مثل علي حرب، بأسلوبه المميز، وبآرائه الخارجة عن المألوف، قارب آلية ممتازة لتحليل الثورات التي تمّت بأقل الخسائر وبأقصى ما يمكن من السلم، من خلال أذرعة المتظاهرين المسالمة، والصدور العارية، والقوة الناعمة.
جميع الحقوق محفوظة 2019