ما الجانب الأكثر إبهاراً في شخصية الشيخ حمد الجاسر، ذاك الذي شَدَّ الدكتور محمد رجب البيومي، فَرَكَّزَ عليه في مقاربته لسيرة علامة الجزيرة العربية، ضمن تراجمه لأعلام النهضة الإسلامية؟!
إنه حُبُّ الوطن!
«وقد أُلهم الشيخ حمد الجاسر حبَّ الوطن، بالمعنى الإيجابي، الذي دفعه إلى استجلاء كُلِّ غامضة من غوامض الأماكن المترامية في بلاده، على سعتها العريضة الشّاملة للجزيرة العربية، فقد قرأ حمد وهو شابٌ ما وقع تحت يديه من شعر الجاهليّة والإسلام، ووقف على أسماء أماكن تتردَّدُ، دون أن يعرف أين هي، ومَن ساكنوها مِن القبائل والأناس؟ وماذا مر بها مِن أحداث التاريخ سِلْماً وحَرباً، ورخاءً وعُسراً»، وفقاً للبيومي.
اكتشف الجاسر برجوعه إلى مراجع كتب تحديد الأماكن والبلدان أن هذه الكُتب التي لا تخلو من تناقض المعلومات فيما بينها من جهة، تُخطئ في توصيف كثير من أماكنها، وعزا الشيخ حمد ذلك إلى «أن أكثر الذين يُحَدِّدون المواضع الواردة في الأخبار والأشعار المتعلقة بالجزيرة العربية – إن لم يكن كُلُّهُم – من غير أهل الجزيرة، وممن يعتمد فيما يكتب عنها على النقل، دون مشاهدة أو تَثَبُّتٍ، ولهذا وَقَعَ في تحديدهم تلك المواضع كثير من الخطأ، وعلى أبناء البلاد أنفسهم أن يُعْنَوا بالدراسات الجغرافية والتاريخية المتصلة ببلادهم»، وهو ما نقله في «من سوانح الذكريات»، ص453.
اللافت والمهم أن الجاسر قال هذا الكلام سنة 1354هـ (1935م)، أي قبل 90 عاماً خلت!
بدا لي أننا في السعودية مدينون للشيخ حمد الجاسر، الذي رسخ منهج الدراسات المكانية الجغرافية التاريخية العملية، ونقلها لجملة من تلاميذه، وكان ممَّن تشربها عبد العزيز المانع… وسارع لتطبيقها على الأرض في تتبعه رحلة هرب المتنبي الشهيرة!
أتدرون أيها السادة، إلى أي حدٍّ فُتن المانع بمنهج مكانيات شيخه الجاسر الجغرافية التاريخية العملية؟!
إلى الحد الذي جعله يُقرر في أواخر عام 2008 البدء برحلة المشقَّة والعناء والإنجاز، فألّفَ كتابه «على خطى المتنبي»، الذي درس فيه طريق هروب هذا الشاعر وتتبَّع مساره ميدانياً، أعود لأذكر أن ذلك في عام 2008!
حسناً، ليكن 2008، ما المختلف فيه، أليس عاماً من الأعوام؟!
كاد يكون كذلك، لولا أنه العام الذي أُعلن فيه عن حصول المانع على جائزة الملك فيصل العالمية للغة والأدب، وهي أعلى جائزة أدبية عربية، أي أن فتنة المانع جعلته يُعرض عن الوجاهة الأكاديمية في سنة بلوغه ذروتها، وقد اتخذ قراره وهو في حالة سِحرٍ، لكنه سُحِرَ على غير العادة، من مصدرين، لا من مصدرٍ واحد!
سَحَرَهُ المتنبي، وسَحَرَهُ حمد الجاسر!
ألا نِعمَ سِحْرُ المرءِ، السِحرُ الحلال، وفي الأثر: «إن من البيانِ لسحرا».
ولأن الصحافيين يحلو لهم تشبيه الدنيا بعالمهم، فمهمة الجاسر والمانع المكانية تشبه التحقيق الميداني. معارضوه؛ أنصار العمل من المكاتب؛ أنصار المذهب القولي، منتقصو المنهج المكاني. ومهما عظمت النظرية، لا تثبت إلا بتطبيقها، ولذلك قيل؛ من جرب غرف، ومن غرف عرف. وقد تُحفَظُ النظرية مُصَحَّفَةً. والتصحيف: تغييرٌ في نَقْط الحروف، أو حركاتها، مع بقاء صورة الخط، كالذي تراه في كلمات، مثل؛ نَمَت ونِمْتُ. وَلَعَلَّهُ، وَلِعِلَّةٍ.
وفي تتبع المانع للمتنبي ميدانياً، توصل إلى أنه أقام بسيناء، ضيفاً لدى ملاعب بن أبي النجم، سيد قبيلة بني سُليم، القبيلة المتحضرة إذّاك، مدة ضيافة العرب 3 أيام أو أقل، لخوفه ملاحقة كافور، ثم تابع رحلته شرقاً صوب النقاب، فوصلها مساء، وعندما قارب الخروج من رأس النقب المفضي إلى الشام، إذا بناقته أو نوقه، بحصافتها تشاركه في مسارات الطريق، وتعطيه خيارات لم يكن ليدركها لولا موهبتهن. يقول:
وَأَمسَت تُخَيِّرُنا بِالنِقابِ
وادي المِياهِ وَوادي القُرى
قال أبو العلاء: «قوله (بالنقاب) من قولهم: ورد الماء نقاباً، إذا لم يُشعَرْ به حتى يهجم عليه. وقد بالغ في صفة النجائب، فأخبر أنها تُعلم الركبان بمكان المياه، فهي أعلم بها منهم. وقوله:
………………….. وادي المِياهِ وَوادي القُرى
بدل تبيين من قوله (النقاب)، كما يقال؛ حدثني فلان عن الشام؛ حلبَ وجِلَّقَ والأردن». يواصل المانع: «أما وقد أصبح المتنبي في النقاب أمام خيارين، فقد أصبح على مفترق طرق يحتاج معه أن يقرر وجهته؛ وادي المياه أم وادي القرى. والنقاب لغة؛ جمع نقب، وهو الثنية بين جبلين. في شرق سيناء، سلسلة جبال محاذية لساحل خليج العقبة الغربي، ممتدة من طابا جنوباً حتى عدة أكيال شمالاً، لتعبر الجبال، لا بد أن تمر بين أحد نقابها. اتجهت شرقاً من غرب سيناء إلى شرقها، وبعد أن جاوزت (الثمد) أكملت الطريق إلى (رأس النقب)، الامتداد الطبيعي لطريق الحج المصري القديم، وليس للمتنبي خيار غيره حينها. ما يدل دلالة قاطعة أن رأس النقب الذي مرّ به شاعرنا هو الموازي لنقب طابا شمالاً، ويبعد عنه بضعة أكيال، وينتهي بـ(أيلة)، وعند هذا النقب، خيرت الناقة المتنبي بين وادي المِياهِ وَوادي القُرى!».