لا تقف بعض حركات الإسلام السياسي موقفاً حاداً من الحرية، بل تعتبرها أولوية، ويرى-على سبيل المثال- يوسف القرضاوي أن الحرية تقدّم على تطبيق الشريعة، ويقول في نص شهير له: “إن المعركة الأولى للصحوة الإسلامية وللحركة الإسلامية في عصرنا هي معركة الحرية، فيجب على كل الغيورين على الإسلام أن يقفوا صفاً واحداً للدعوة إليها والدفاع عنها، فلا غنى عنها ولا بديل”. وإذا كان الشيطان يسترخي بوسوساته بين الفراغات، ويكمن بقرنيه في عمق التفاصيل، فإن الإشكالية تكمن هذه المرة في تفصيل مفهوم الحرية ذاته. ليست الحرية لديهم هي ذاتها الحرية لدى جون لوك أو عبدالله العروي أو محمد أركون، بل هي حرية مفصّلة وفق مقاسات المشروع السياسي الكبير الذي يطمحون ويخططون له منذ بداية تأسيس حركاتهم. اتخذت تلك الحركات الحرية والديمقراطية لأنها الوسيلة الرئيسية لتنظيف كراسي الحكم من أصحابها. إن هذا الاستخدام والتوظيف الحركي لمفهوم الحرية من أكبر أسلحة حركات الإسلام السياسي، خاصةً وأنها تستخدم الحرية، لا بمفهومها الاجتماعي والفكري وإنما بالمفهوم المنسجم مع المشروع السياسي، فمن دون حرية تمنحهم فرصة التحرك والتعبير عن آرائهم، والتجييش ضد أعدائهم، باسم الله والإسلام، لن يتمكنوا من طرح مشروعهم السياسي، ولن يصلوا إلى سدة الحكم. إنهم يلوذون بمفهوم الحرية، لأنه هو مفتاحهم إلى الواقع. راشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة الإسلامية في تونس كتب قبل أيام مقالة تحت عنوان “الحرية أولاً” ملأه بالدعوة إلى الحرية. يقول في مقالته: “ومع أن الأنظمة القائمة والقوى الدولية الداعمة لها، تظل تمثل العائق الوحيد في وجه أشواق أمتنا للحرية، ونيل نصيبها من المغنم الديمقراطي، الممتد عبر كل قارات العالم عدا بلاد العرب، فلا تزال جوانب من الخطاب الإسلامي للتيار الوسطي -وهو ما يهمنا أكثر باعتباره الجسم الرئيسي للإسلام المعاصر الذي تنعقد عليه الآمال- ناهيك عن تيارات التشدد، مترددة في المضي بالحرية والديمقراطية ومعهما إلى النهاية وإيلاء المؤمنين الثقة كاملة غير منقوصة في ربط مصير المشروع الإسلامي بوعيهم والتسليم لهم أنهم أصحاب السلطة ومصدرها الوحيد، بدل سوء الظن فيهم والوصاية عليهم والخشية على المشروع الإسلامي منهم”. في نصه هذا يحاول مؤسس حركة “النهضة”، أن يلعب على أوتار الحرية والديمقراطية لترسيخ قدمه في الواقع، بينما لو فتشت عن معنى الحرية، ومعنى الديمقراطية، لن تخرج منه إلا بتعابير وتفاسير منطلقة من صميم وتخوم المشروع الاستيلائي السياسي، الذي يخطط له الغنوشي منذ عقود. يعبّر بشكل شعري عن وجود أشواق للحرية تنتاب الأمة، وفي موضع آخر من مقالته يعتبر الحركات الإسلامية هي التي تحتكر الجماهير، وأن الأنظمة الحاكمة اغتصبت الجماهير فكرياً، بينما كانت الجماهير ذاتها تبحث عن مصلح يخرج لها بمشروع إسلامي صارخ ومسلح! إن انتشار الطروحات الناعمة لدى رموز حركات “الإسلام السياسي” يبرهن على أن الموضة الحالية هي موضة الطرح الناعم، وذلك للخروج من تصنيف الإرهاب والعنف، محاولين إخفاء تاريخ طويل من العنف، بينما لو تصفحت تاريخ تلك الحركات بتأسيسها وجذورها، لشاهدت رقائق الدم، وقد تعلقت بكل حدث من أحداثهم، وبكل تاريخ من تواريخهم، بينما تبحث المجتمعات عن السلم والأمن. في العالم العربي نحن نحتاج إلى التنمية، أما الديمقراطية فقد تلوثت بالأيديولوجيات الشيوعية والإسلامية والعلمانيات الرجعية. قد يكون خيار التكنوقراط والخبراء كبديل للمثقفين والرموز- التي تتحرك عبر مشروعات استيلائية تريد أن تعمم مشروعها على كل الآخرين- هو الطريق نحو مستقبل أقل ألماً وتخلفاً.
جميع الحقوق محفوظة 2019