الديمقراطية لا يمكن أن تنبت على أرضٍ ثقافية غير خصبة. تحتاج إلى مخاضات طويلة حتى تنضج، وليس كل من صوت يوصف بأنه قام بفعلٍ ديمقراطي، الديمقراطية أعمق من الأشكال التي تتداول! لفت نظري خبر يعبر عن مجيء ما يمكن تسميته بـ”ديمقراطية الأحذية” حين تحولت مشادات كلامية بين أنصار المرشح لانتخابات الرئاسة الفريق أحمد شفيق ومناوئيه، إلى اشتباكات عنيفة بالأحذية على سلالم نقابة الصحفيين يوم السبت الماضي. الغريب أن الشعارات التي رددت من قبل الفريقين كلها شعارات غير ديمقراطية تبادلا كلمات مثل:”يسقط يسقط” وكل فريقٍ يتمنى زوال الآخر، ولا أظن أن مثل هذه البداية لمصر أن توصف بالديمقراطية الناضجة. ليتنا نستعيد الذاكرة قليلاً مع الانتخابات الفرنسية. كانت مدرسةً في كل تفاصيلها. طرح المرشحون برامجهم التي يرون صحتها. بين ساركوزي وهولاند دارت رحى المنافسة الديمقراطية الحقيقية. والمنافسة لم تكن على سلوكيات جزئية، أو على معايير لبس البحر، أو منع هذا النوع من الأكل أو لا، كانت المنافسة بينهما على أشدها لا بينهما كأشخاص، وإنما كبرامج. لدى كل منهما برنامج واضح يمكنه أن يغري الناخب، والفوز لم يكن بفارقٍ كبير، وهذا يدل على قوة هذه المكينة الديمقراطية الفرنسية. أما المناظرة التي جرت بينهما فقد كانت درساً مجانياً لجميع المجتمعات التي تطمح إلى الديمقراطية، كما أن المناظرة هي التي أعطت المؤشرات الواضحة حول الفائز المرتقب، وحين فاز هولاند قال ساركوزي :”تحدثتُ إلى هولاند اليوم، فرانسوا هولاند هو الرئيس الجديد لفرنسا، إنه خيار ديمقراطي وجمهوري وأتمنى له التوفيق في مواجهة التحديات”. لنقارن هذه الديمقراطية العظيمة بالذي يجري في الدول العربية، في لبنان مثلاً حين يفوز فريق على الآخر تساق الاتهامات، بين من يشتري الأصوات، ومن يوزع الزيت والطعام على الناس لينتخبونه، ومن الصعب بل من المستحيل أن يعترف أحد بفوز أحد، لأن العقلية العربية السياسية تقوم على الغلبة المطلقة كما هو نموذج الحكم في تاريخنا الإسلامي على حد وصف ابن خلدون، والغلبة نقيض الديمقراطية، لأن الديمقراطية ليست حرباً بين قبيلتين، بل تعبر عن تنافس بين البرامج والمجتمع يختار من بينها ما يريد. أما الديمقراطية بنموذجها العربي الذي لا يزال مخفقاً فإنها تقوم على الصراع، والذي لم يفز في الصناديق يعتبر أن هناك مؤامرة دولية أسقطته وأن الفائز لا يستحق الفوز وإنما اشترى الأصوات. الديمقراطية ليست مجرد صناديق منشورة، ولا يكفي تقليد النماذج الغربية حتى نستطيع أن نتباهى بأننا من البلدان الديمقراطية، بل لا يمكن أن يكون المجتمع ديمقراطياً إذا لم يتغير ثقافياً. تهنئة ساركوزي لهولاند تعتبر إحدى القيم الأساسية للمجتمع الفرنسي وهي قيمة زرعت من الثقافة، كما أن عدم التنابز بالألقاب، أو القدح بنتيجة الانتخاب يعبر عن احترام أصوات الجماهير. الثقافة شرط الديمقراطية وهي ليست شرطاً للناخبين فقط وإنما للمرشحين أيضاً. الشخصية العربية للأسف تحاول أحياناً أن تقنع ذاتها بأنها مقبولة بشكلٍ مطلق، لهذا يظنّ المرشح أنه المحبوب والمقبول والمبجل والمقدّر، وحين يستمع إلى من حوله أطيب الثناء يظنّ أن الناس كلهم كذلك، ساركوزي حين مني بالخسارة يعلم أنه ليس محل إجماع من الفرنسيين منذ البداية، ولا يمكن لأي مرشح من البشر أن يكون محل إجماعٍ من المجتمع. من حق الإنسان أن يظنّ بنفسه كل الظنون الرومانسية والأحلام الوردية لكن ليس من العقل أن يعتبر هزيمته في الانتخابات مؤامرة صهيونية. فلا داعي للأحذية التي ترمى من كل مكان من قبل الفريقين كما حدث في مصر، بل الديمقراطية هي الرقي بكل تفاصيله، والاختبار العربي القائم قد يجعلنا نشعر بخيباتٍ أخرى.
جميع الحقوق محفوظة 2019