بعض السنوات تمر من دون لون أو طعم أو رائحة. هذه السنة 2011 من أكثر السنوات العربية إثارةً في التاريخ المعاصر. الثورات العربية التي بدأت بتونس وزحفت إلى سوريا مروراً بمصر واليمن وليبيا كانت العلامة الفارقة هذه السنة. يقولون كنا نقرأ التاريخ لكننا الآن نراه بل ونعيش تفاصيله.أن تشاهد في سنةٍ واحدة خمسة أنظمة تنهار أو تكاد خلال أشهرٍ معدودة هذا يعني أن شيئاً استثنائياً آخذٌ بالتشكل. صار العالم العربي بكل أطرافه مركز الاهتمام العالمي، لم تعد قضايا العرب محط اهتمامٍ دولي بسبب قضية فلسطين، ولا ملف جنوب لبنان، بل ولا السلاح النووي الإيراني، بل غدت الثورات وما يمكن أن تأتي بها هي موضع الحديث والبحث العالمي، غير أن هذه السنة مع كل ما حملته من أحداثٍ استثنائية مرهقة، يمكننا أن نطرح أمنياتنا بكل حذر واستشراف. شهدنا هذه الأيام وصول الإسلاميين إلى السلطة، في تونس، وفي المغرب، وهم في الطريق إلى الوصول في مصر وأسس “الإخوان” حزبهم في ليبيا والمؤشرات توحي بحظوظ ليست قليلة لوصول “الإخوان” المسلمين في سوريا إلى سدة الحكم، هذا الوصول من الناحية الديموقراطية ضمن المتاحات والممكنات، وهو وصول نظامي وليس وصولاً انقلابياً، كل هذا مفهوم، غير أن الأهم في نظري أن تحاول تلك الأحزاب أن تكون ذات أخلاقياتٍ مدنية، وأن تطور من رؤاها ومن مشاريعها، لا أن يكون المشروع منحصراً بالوصول إلى السلطة، ولهم في الإسلامية التركية خير مثال وأوضح نموذج. لقد حاول أهل الثقافة والاختصاص والحكم خلال العقدين الماضيين التركيز على ترسيخ الوسطية والاعتدال بين الإسلاميين، وبخاصةٍ بعد انتشار الإرهاب وأعمال العنف، غير أن كل الجهود يجب أن لا تطمسها مرحلة ما بعد الثورات، وأن تكون الثورات بكل نتائجها خادمةً للإنسان العربي ومانحةً له ثمار السعادة والاستقرار والأمن. ووصول التيارات الإسلامية إذا أثمر عن طمس لمعالم الوسطية في الإسلام فإن الخطورة ستكون ليست على الحزب الإسلامي فقط، وإنما على المجتمع الذي وصل إلى سدة حكمه. نلاحظ أن الدول التي مرت بثورات تعاني الآن من الاضطراب الاجتماعي، لأن التغيير ليس سهلاً أن يكون مستوعباً بسرعة، بل يحتاج إلى وقت ليكون واقعاً، والأثمان التي قدمها المجتمع ليست قليلة، هناك عشرات الآلاف من القتلى، والذين رحلوا لديهم زوجاتٍ وأولاد، والحكومات حين تتشكل فإنها مسؤولة من الناحية الاجتماعية عن كل النتائج التي أثمرتها الثورة. وعلى الحزب الذي سيصل إلى الحكم أن يعلم جيداً أن الوصول إلى الحكم ليس قطفاً سهلاً لثمرةٍ من ثمار الثورة، بل هي المسؤولية الكبرى أمام المجتمع والتاريخ، وأكثر الأحزاب عنفاً تلك التي تشارك الناس في أفراحهم، وتنزوي عنهم في أتراحهم. فالمهمة الاجتماعية للحكومات القادمة كبيرة وملحة، وبخاصةٍ في ليبيا التي عاشت سنةً هي الأصعب في تاريخها المعاصر منذ الاستعمار الإيطالي. لنتذكر أنه لا قيمة لأي تفكيرٍ بالنهضة من دون التعويل على التنمية. وإذا أخذنا ليبيا على سبيل المثال، سنجدها متوقفةً عن النمو منذ وصول القذافي إلى السلطة، ولم تستفد المؤسسات من الثروة الليبية، والبنية التحتية شبه معدومة. ومع الثورة الليبية دمر القذافي ما طالته يده، حين توعد بأنه هو من بنى ليبيا وبأنه هو من سيهدمها، صحيح هدمها لكنه لم يكن قد بناها أصلاً. لقد هدم بنيةً تحتية هزيلة، هذه الدولة أمامها رحلة طويلة من أجل التنمية، وعلى الليبيين أن يتفاءلوا، لنتذكر أن اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم تحتج إلا إلى عقودٍ خمسة لتعود لتكون ضمن القوى العظمى في العالم. السنة الجديدة هذه منحناها هذه الأمنيات الثلاث، الاعتدال، والاهتمام الاجتماعي، والتنمية، ولئن نجحنا في البدء بها خلال هذه السنة، فإننا سنكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح، وكل عامٍ وأنتم بخير.
جميع الحقوق محفوظة 2019