نتساءل أحياناً عن سبب تكيّف الناس مع حماقاتهم. عن سبب حبهم وعشقهم لكل أخطائهم. لكأن هناك حالة من الاندراج العفوي والتلاؤم الرتيب مع كل الكوارث، التي لا يراها الإنسان. لهذا لا يمكن أن يدل السلوك المتخلف إلا عن بيئة حاضنة تشجّع على ممارسة هذا الخطأ والاستمرار فيه. غير أن البحث عن إجابة لهذا السؤال الكبير يمكن أن نجد مقاربته في نظرية “مارك بوكانان” في كتابه: الذرّة الاجتماعية. وهو مفكّر اجتماعي ممتاز، اشتغل كثيراً على تفسير الأفعال. اعتبر حالة الاندماج -مع النمط العام من دون تفكيرٍ عميق فيه- بقوة آخذة في العمل. كيف يستمرّ الإنسان على ما هو عليه، ويرضى بكل السوء الذي يحيط به؟ يجيب “بوكانان” على هذا بأن:”النمط ينبعث تلقائياً من الاضطراب والارتباك؛ ويكتسب طاقة وقوة في حد ذاته. يكاد الأمر يشابه تصميم رقصة، ولكن من دون مصمم! اصطلاح الناس على دروب غير مباشرة –وقد تكون ملتوية- يمضون عبرها، قد لا يدل مطلقاً على رغبات استشعرها بالفعل أيّ شخص بمفرده، ولا حتى عدد من الأفراد يمثّل متوسطاً معقولاً”. بمعنىً آخر؛ هناك تفكير جمعي لا يعي بالمشهد المزعج في السلوك العام. فمثلاً حينما تزور مجتمعاً هو غاية في التخلف، ومخالفة الأنظمة، ورثاثة الشكل، وضعف التنظّف، لا تجد أن المجتمع بمجموعه يعي هذه الكوارث إلا على مستوى الخطاب النخبوي المحدود. لهذا يشعر المجتمع بأنفةٍ من الفرد الذي ينفكّ عن تفكير المجموع. فيصنّفونه تصنيفات متعددة محاولين تصفيته معنوياً أو حتى جسدياً. في حلقة قديمة من مسلسل “حكايا” للفنان السوري ياسر العظمة، طرح حلقةً من أجمل حلقات هذا المسلسل. خلاصتها، أن قريةً اعتاد كل أهلها على المشي إلى الوراء، حتى حينما يقود الحمار يقوده وهو يمشي إلى الخلف. وحينما يدخل إلى مجلس يدخل على ظهره. تسرّبت إلى فكر أحد أفراد هذه القرية فكرة المشي إلى الأمام؛ رأى فيها راحة وسلاسة وانسجاماً مع الجسد. فمشى في البداية إلى الأمام لوحده في الغرفة. وشعر بقشعريرة تسري في جسده بسبب مخالفته نظام القرية. وبعد طول تفكير أسرّ إلى أحد أصحابه بأنه يودّ المشي إلى الأمام. وما إن أعلن مشيته إلى الأمام حتى حاربته القرية، ووصفه العمدة بـ”الزنديق” لأنه مشى إلى الأمام وتمّ نفيه إلى الصحراء. ذلك المشهد يبيّن كم أن الجموع لا ترى أخطاءها إلا من خلال نقد الأفراد وتنبيههم وتحريضهم ضد الواقع المأزوم. سخرية حملتْها للمشاهد ومبالغة كوميدية مميزة، غير أن المعنى العام للفكرة حقيقي وواضح في العالم العربي؛ وفي كل العوالم النامية التي تتلمس طرق النجاة ودروب التقدم والخروج من هذا التيه. وهو ما يشير إليه بتفصيل دقيق ووصف بارع “بوكانان” في كتابه حينما يقول: “نحن نجد أنفسنا مجتذبين إلى مجار اجتماعية نجعلها بدورنا أكثر قوةً وإقناعاً للاحقين بنا من الناس، نحن نؤدي دون نيّة منا إلى خلق طرز شائعة أو حركات شباب أو موجات من الجنون أو ضروب من التقديس أو نزعات قومية حماسية أو توثبات في سوق الأسهم”. إذن هناك فعل اجتماعي من دون نيّة يؤسس له التشاكل والاندماج في الفعل من دون إدراك أو تفكير، ولعل من أجمل ما أنجبته الليبرالية معنى الفردية الذي يمنح الإنسان مسافةً لإدراك الصحيح والخاطئ، الجميل والقبيح، في مسيرة المجتمع وطريقته، وهو المعنى الذي يمكن أن يفتت حالة التشابه والاشتراك بالخطأ، والفخر بالحماقات من دون تساؤل أو تفكير بجدوى فعل كل ذلك السوء، ومعنى تحمّل كل ذلك الزيف الاجتماعي الكبير.
جميع الحقوق محفوظة 2019