«شعوري لا يوصف عندما زُفّ لي نبأ استشهاد زوجي، قبل أن يغادر آخر مرة، أوصاني بنفسي وولدنا، وأخبرني أنه سيستشهد فقد كان يشعر بذلك، ويتمنى هذا الأمر، الشهيد كان خلوقاً وطيباً وحافظاً للقرآن الكريم، أتمنى أن يكون ابننا في المستقبل كأبيه، بطلاً يدافع عن وطنه المعطاء».
هذه الكلمات لزوجة زكريا الزعابي، شهيد الإمارات، الذي انتقل إلى رحمة ربه قبل أيام، في ميدان الشرف، كلمات تقطر صدقاً من زوجةٍ فقدت حبيبها وشريكها، لكنها نعتْه كما يليق ببطل خاض غمار المعارك وقضى في قلبها شهيداً، وكان رمزاً وطنياً شامخاً، رسم درساً بمخيال هذا الجيل، ليعلم أن الاستقرار الذي ينعمون به، له من يدافع عنه، أبطالٌ يدفعون أرواحهم، وتنزف دماؤهم، من أجل استقرارك في بيتك، بين أسرتك وأهلك، لتغفو مرتاحاً، لا تخاف إلا الله.
تُخاض الحروب اضطراراً، بُغية صناعة وتأسيس وقائع مختلفةٍ على الأرض، ولا أحد بالعالم يحب الحرب أو يُفضّلها، لكنها في النهاية مثل الكيّ «آخر الدواء»، والحرب هي أساس السلام، ولم يخلق سلام بالعالم من دون حرب، خذ مثلاً الحربين العالميتين، صنعتا عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأسستا لنظامٍ عالمي جديد.
يقول الفرنسيون مثلهم الشهير:«الحرب هي الحرب»، بمعنى أنها بالضرورة تحمل الآلام، وبعض الأوجاع، وتُفقِدنا بعض الجنود الأبطال، ولكن الحرب جزء من حركة التاريخ، بها تنتهي نماذج وتُخلق مكانها أخرى!
لقد خاض أبطال التحالف معارك كبرى جليلة، وأحرزوا انتصارات عظيمة، وأيقظت تلك الحروب بكل مآلاتها الحس الوطني العام، وأخفت الحدود المتوهمة بين أبناء الوطن الواحد، لم يعد ثمة فرق طبقي أو شكلي أو مناطقي بين الإنسان والآخر.
وذلك الفضل يعود إلى مفهوم «الشهادة»، والذي أشعرنا بالخجل أمام ما يبذلونه بالجبهات، يقلقون بينما نطمئن، يموتون لنحيا، ويتعذّبون لنرتاح، هذا هو مفهوم «الشهادة» الموقِظ فعلياً لكل أحاسيس المواطنة، والشعور بالانتماء، والفخر بالأوطان، لهذا كان «يوم الشهيد»، علامةً على القوة، والتلاقي، والوفاء، والوئام، والانسجام.
يعلّق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، على تضحيات وبسالة جنوده حدّ الشهادة، قائلاً:«إن تضحيات شهداء وأبطال دولة الإمارات العربية المتحدة، ستبقى محفورة في ذاكرتنا عنواناً للفخر والعزة والمنعة، ونماذج مشرفة في البذل والعطاء، ومنارة تضيء درب المستقبل المزدهر لوطننا، وستبقى دروساً عميقة لإلهام الأجيال القادمة بأسمى معاني التضحية والولاء والانتماء للوطن، والحفاظ على أمنه، واستقراره، وعزة وكرامة شعبه».
وحين أمر الشيخ خليفة بن زايد، رئيس الدولة، باعتماد يومٍ للشهيد في الـ 30 من نوفمبر كل عام، مع تاريخ استشهاد أول إماراتي «سالم سهيل بن خميس»، في الثلاثين من نوفمبر عام 1971، حين استيقظ سكان جزيرة طنب الكبرى في 30 نوفمبر 1971، والذين لم يتجاوز عددهم 120 فرداً.
فجر ذلك اليوم على أصوات أزيز الطائرات الإيرانية العسكرية المرعبة، وسط ذلك الظلام الدامس، ولحظات قليلة ويرتفع صوت الضجيج أعلى فأعلى، وما كان الضجيج سوى أصوات السفن والزوارق البرمائية الحربية الإيرانية المدججة بأحدث الأسلحة، وقف عند سارية العلم رافضاً نزول العلم، فأُطلقت عليه النيران، التي نهشت جسده، واستسلم الخمسة الباقون، هكذا رويت القصة بالتفصيل على صفحات هذه الجريدة.
تأبين هذه الزوجة لرفيق دربها، دلالة بليغة على مستوى المواطنة المرتفع والإحساس بالمسؤولية لدى المجتمعات الخليجية المتحالفة، بوجه الإرهاب والقتل، وفيها بلاغة شديدة بالتعبير عن حب الأرض، حتى وإن بُذل لأجل ذلك روح غالٍ وعزيز، ولنا في الأمم الأخرى خبرةً وتجربةً وبخاصةٍ في أوروبا، حيث وحدت الحروب المجتمعات، لينسجموا ضمن وطنهم وحاجاته ومصالحه… ذلك هو أثر مفهوم «الشهادة».