إضاءات – تركي الدخيل
لا أبالغ مطلقاً حين أقول: إن أقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة، لم يشغلها، في تاريخها، سفيرٌ يعمل في عاصمتها، بقدر ما شغلها، الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز، سفير السعودية في واشنطن من ١٩٨٣ إلى ٢٠٠٥، حتى وصفه، وليام سمبسون، مؤلف كتاب سيرته، بأنه الأمير الأكثر إثارة للاهتمام في العالم.
في منتصف العام ٢٠٠٥، بث المخرج الأميركي الشهير مايكل مور فيلماً يقدم رؤيته عن أحداث سبتمبر، اسم الفيلم: «فهرنهايت 9/11»، وخلاصته أن قيادة بندر بن سلطان، بفعل علاقاته النافذة، والمتشعبة في أروقة صناعة القرار بواشنطن، جعلت السعوديين يسيرون السياسيين الأميركيين، ويتحكمون بهم.
لا شك أن مور، كان قدم عمله وقد تشبع بنظرية المؤامرة، لكنني بعد أن شاهدت الفيلم، امتلأت بالفخر، فلو كان ربع ما زعمه صحيحاً، فهذا يقتضي أن نؤدي العرضة في شوارع واشنطن، فخراً بعمل بندر بن سلطان.
استذكر محاورتي له في (إضاءات) في مايو ٢٠٠٤، وكيف دخلت بيت الأمير، ولم نتفق على إجراء المقابلة، لكني ذهبت بكامل الفريق جاهزا للتصوير، لو وافق الضيف، وهو أمر كانت نسبته ضئيلة.
فوجئت حينها بأن بندر بن سلطان، الذي كان ملء بصر الإعلام وسمعه، لم يجر قبل مقابلتنا أي مقابلة باللغة العربية! زادت المعلومة من إحباطي، وقلصت نسبة إجراء الحوار، لكن الانسحاب يعني خسارة تحقيق سبق صحافي. بعد حوار لم يتجاوز عشر دقائق، وافق الأمير على المقابلة، وفوجئت ثانية أنه لم يطلب محاور الحوار، إلا أنه قال: ستسأل عن قصة سجن أبو غريب بطبيعة الحال، فرددت بالإيجاب. المفاجأة سارة للصحافي هذه المرة.
من باب كسر الجليد قلت للسفير الذي لم يكن يغيب عن شاشات التلفزيون الأميركية أسبوعاً آنذاك، بأن تعامله مع الإعلام الأميركي، يساعدني على رفع سقف الأسئلة. رد، بقاعدة تنفع الصحافي والسياسي والديبلوماسي فقال: من حقك أن تسأل ما تشاء، ومن حقي أن أجيب بما أريد.
المسؤول الذكي، يستطيع أن يجيب إجابة ترضي غرور الإعلامي، لكنها لا تقع ضمن دائرة الجواب الذي كان ينتظره!
في المقابلة سألته عن كتاب بوب وود ورد الذي صدر حينها وأثار ضجيجاً، عندما أكد أن فاعلية بندر في واشنطن جعلته يعرف بموعد إعلان الحرب الأميركية على العراق ٢٠٠٣ قبل الموعد، لا بل قبل وزير الخارجية الأميركي!
أجاب: «لو لم يكن للرئيس الأميركي مصلحة في إبلاغي، ولم يكن لبلادي قيمة بالغة لديهم، لما أبلغوني».
درس ثانٍ، من أستاذ محترف: لا تشرق أكثر من سيدك، حتى لا تنطفئ سريعاً!
سألته عن ثلاث أو أربع معلومات في الكتاب السابق (خطة هجوم)، فأجابني عنها، ولما سألته: لمَ يختارك كاتب شهير ليتحدث عنك مراراً في كتاب يتحدث فيه عن غزو أمريكا للعراق؟! فأجاب بلطف وسخرية جميلة:» أخ تركي أحب أذكرك إن اسمي بندر بن سلطان، وليس بوب وود ورد. هذا سؤال يوجه له. ربما استنتج بحكم العلاقة الاستراتيجية القوية بين الرياض وواشنطن، أن لي علاقة بكل هذه الأمور».
درس ثالث في التألق: عندما يؤكد الجميع نجوميتك، حديثك عن هذه النجومية يقلل من بريقها.
قلت له: الإعلام الأمريكي يتحدث عن علاقات عائلية ووثيقة بينكم والرئيس بوش، ويعتبرونك السلطة الخامسة في بلادهم.
رد: العلاقات بيني والرئيس وعائلته علاقات صداقة مبنية على احترام متبادل، لكني لا أسميها عائلية، لم أناسبهم، ولم يناسبوني! قلت: أنا استخدم نص مصطلح الصحافة هناك! قال: وأنا أرد على الصحافة الأميركية عن طريقك!
درس مجدداً: يمكن للسخرية في موضعها، أن تكون مخرجاً إيجابياً من التعامل النصي مع السؤال والإجابة عليه موضوعياً.
لم يكن بندر بن سلطان، شخصية عابرة في السياسية والديبلوماسية السعودية، وإذ أدعو له وقد بلغ السبعين من عمره، بالصحة والعافية والعمر المديد، أتمنى على الأمير النجم، أمنية صادقة، وهي أن يكتب مذكراته الثرية، لتكون درساً للأجيال، وتوثيقاً لتاريخ السعودية، وتأكيداً على نجاحات لم تتحقق فقط بسبب الثروة والنفط، بل بوجود قيادة مخلصة، وذكية، تعمل لتضع الوطن في العلياء… حيث يليق به!
* السفير السعودي في دولة الإمارات