في العادة يسوؤني الإجماع. كل إجماع مخيف، بما هو تعطيل لفهم التناقضات وإدارتها، ونقض لأس الحياة بما هي مراس دائم على التسوية. وإذ ترتاح نفسي للا – إجماع، أرتاح لأناس كتركي الدخيل، الذي ما إن تحضر سيرته حتى تستحيل المحادثة عنه وعبره شيئاً من المبارزة، بين «التركي دخيليون» وخصومهم. سيوف قاطعة، تجالدها سيوف، وتُرُس تقابلها تُرُس. وأعجب، كيف لهذا الهادئ، كفناء كنيسة، أن يثير الهيجاء في الصغيرة والكبيرة.
لن يكون هذا التناقض الوحيد في شخص أبي عبدالله، وهو الذي فيه تتصارع وتتحد تناقضات لا حصر لها.
فهو المستشار السياسي الكتوم، والمؤتمن على أسرار دول وحكومات، لكنه يرد الكتابة من باب الأفكار والأدب والثقافة. وإن كان «في خاطره شي» من السياسة المباشرة، عالجها «بإضاءات» تلمع بين سطور قوله، مشدوداً دوماً إلى حداثة في الفكرة والقول والممارسة.
وهو الدافق والمقتر في آن. لا أعلم سبب اختياره اسم «المسبار» لمركز الدراسات والبحوث الذي أسسه، وأحسبه أنصف نفسه من حيث لا يدري. فهو صاحب ثقافة «مسبارية»، يكتب ببخل شديد في العبارة كأنثروبولوجي يدون ملاحظات دقيقة عن شعوب مهددة بالانقراض، فلا يريد أن يخطئ مع موضوع قد لا تتاح معاينته مرة أخرى. «تركي البخيل» هذا، يعيش في نفس تركي آخر. نهر صداقة دافق، ومورد حب متجدد، كأنه يحبك وحدك، وأحبته كثر.
جعلت مواقع التواصل الاجتماعي من المحادثة العامة مضماراً يسيراً للتنمر، ومسابقة في العدوان، لا سيما على من كان مثل تركي الدخيل. لكنه ظل على قول الأقرب إلى قلبه «يبيد عداوات البغاة بلطفه» من دون أن يكمل إلى عجز البيت وتتسرب إليه قسوته.
كثيرة تناقضات تركي الدخيل، التي يجمعها خيط هو النبل.
فالنبل واحدة من الصفات التي تحيط بتركي بكليته. نبيل في الصداقة، ونبيل في الخصومة. نبيل في الإقبال ونبيل في الصد. لا تجعله رفعته مكسر عصاً، ولا تُستفز كرامته إذ ينوشه من دونه.
لم أرَ تركي يغادر هذه الصفات جميعاً إلا مرة واحدة، حين شعر أن وطنه في خطر. صار ذاك المقاتل الشرس الذي لا تعوزه قسوة القتال ولا صرامة الوضوح، ولا ترتجف نفسه وهو يعبر مع المتنبي إلى عجز بيته الشهير «فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا»!
شكراً تركي لا تنتهي.. شكراً بحجم الحب.
* إعلامي لبناني