بلا جدال، أن الإنترنت من أكثر الاكتشافات البشرية التي غيرت وقلبت حياة الناس رأساً على عقب، وغيرت طرق تعاملهم وخلقت عادات جديدة، ثقافياً واجتماعياً ومالياً. لكن الجدل الذي يدور في بعض أطراف العالم اليوم مبناه على سؤالٍ رئيسي: هل حرية الإنترنت إيجابية أم سلبية؟! وهل هذا التعبير الذي يطرحه الناس بغض النظر عن مؤهلاتهم، أو ثقافاتهم أو عظمة وتفاهة ما يطرحونه، هل كل هذا يصب في صالح الناس والمجتمعات؟ أم أنه يبلبل الرأي العام وينشر الفتنة ويثير النعرة؟ هل الحياة من دون شبكات التعبير هذه كان يمكن أن تكون أفضل وأكمل؟ في صحيفة “واشنطن بوست” كتبت: آن أبلباوم، مقالاً عنونته بالتساؤل: “لماذا تحمي وزارة الخارجية الأميركية حرية الإنترنت؟” ونقلت عن هيلاري كلينتون قولها: “نحن نؤيد وجود شبكة إنترنت واحدة يتمتع البشر أجمع على حد سواء بإمكانية الوصول للمعلومات والأفكار التي تحويها”. كانت هذه الجملة في خطاب للوزيرة الأميركية في يناير 2010، وعنونت الكلمة :”خطاب مهم عن موضوع بالغ الأهمية”. وأضافت: “نحن ندعم أيضاً تطوير أدوات جديدة من شأنها أن تكفل للمواطنين ممارسة حقوقهم في التمتع بحرية التعبير من خلال تجنب الرقابة المدفوعة سياسياً ونقدم التمويل لمجموعات بأنحاء مختلفة من العالم للتحقق من وصول مثل تلك الأدوات للأفراد الذين هم في حاجة إليها”. ما لم يكتشفه النظام السياسي العربي بعد، أن الإنترنت، ليست ترفاً، بل ضرورة، والتعاطي معها، يعادل الحاجة إلى الطعام، وقطعها شبيه بأن تستيقظ مدينة فلا يجد ساكنوها رغيف خبز! بعض الحقائق بالنسبة للبعض سلبية، لكن سلبيتها لا تغير من واقعيتها، والإنترنت، أصبحت اليوم الوسيلة الرئيسية لتغيير الأنظمة الديكتاتورية، وإحلال النظام “الديمقراطي” بديلاً لها، ولا ننسى أن بعض الأنظمة العربية بقيت تحجب “الفيسبوك” و “تويتر” إلى وقتٍ قريب! هذه الرقابة البوليسية هي وجه من وجوه الرقابات المفروضة على الإنترنت. وإذا كانت “ثقافة حقوق الإنسان” ومواثيق حقوق الإنسان الدولية قد كفلت للإنسان حرية التعبير حتى قبل اكتشاف الإنترنت، فإنه ليس كالإنترنت وسيلة للتمتع بحق تعبير مكفول بميثاق دولي عالمي هو محل احترام بلا مساس. قبل أن ينال الإنسان حرية التعبير في الحدائق والصحف والمقاهي كان مقموعاً لا ينطق إلا بما يملى عليه من المؤسستين السياسية والدينية، لكن حين وصلت الثقافة الحقوقية العالمية إلى أوجها بعد مخاض التنوير في أوروبا، صار التعبير حقاً مكفولاً للجميع، وفق القوانين التي تنظّمه وترتبه. وحين جاءت الإنترنت أصبحت وسيلة تعبير قصوى، فبإمكان أي فردٍ أن يعبر عن أي فكرة من جهازه الصغير الذي يحمله على كفّه. جاءت الإنترنت لتكون أضخم اختبار تواجهه السلطات السياسية، حيث لم تستطع بعض دول العالم بما فيها “الصين”، أن تتحمل الحريات التي تمنحها الإنترنت! بقي أن نقول للأنظمة السياسية العربية، بأن أدوات تشكيل الفعل السياسي والثقافي والاجتماعي تغيرت، ومواجهة الفعل بالآليات القديمة، شبيه بقصة الدب الوفي الذي أراد أن يهش ذبابة عن صديقه المستلقي فألقى عليه حجراً ضخماً. طارت الذبابة، لكن الرأس تهشم! في نفس المقالة تقول “آن أبلباوم”: “قبل ثلاثة أشهر من هذا الخطاب، في أكتوبر 2009، تلقت وزارة الخارجية الأميركية مبلغا قيمته 30 مليون دولار من الكونجرس خصيصا لمكافحة الرقابة المفروضة على الإنترنت، يبدو أن النظام السياسي الأميركي عاجز عن إيجاد “شبكة إنترنت واحدة يتمتع البشر أجمع على حد سواء بإمكانية الوصول للمعلومات والأفكار التي تحويها”. غير أن الشركات الأميركية ليست مختلفة وظيفياً، أو على الأقل إلى الآن. فبضعة ملايين من الدولارات تعد شيئاً بسيطاً في الميزانية السنوية لموقع جوجل أو فيسبوك – وأعتقد أن ثمة مكاسب مالية ضخمة تنتظر الشركة التي تجد وسيلة لتقديم إمكانية وصول إلى الإنترنت غير خاضعة للرقابة يستفيد منها هؤلاء المحرومون منها”. شبكات الإنترنت لا تحتاج فقط إلى تحرير من قبل الخارجية الأميركية، بل إلى استيعاب من قبل الديكتاتوريات الغاضبة من كل منافذ التعبير، لقد كان تعبير الناس عبر إتاحة الفرص المتساوية لهم في التعبير والحديث أفضل ما أهدتنا إياه شبكة الإنترنت، لستُ مع من يرى أن طوفان التعبير هذا سلبياً، بل هو إيجابي، وإيجابي، وإيجابي، أكررها ثلاثاً!
جميع الحقوق محفوظة 2019