من الرائع أن ندعو للتسامح، فهو الفضيلة الأخلاقية التي نهضت بها البشرية بين بعضها البعض، بعد الحروب الدينية والمجازر السياسية والعرقية، أصبح التسامح هو الحل من أجل نشر المحبة بين الناس، والتسامح لا يعني أن هناك ذنباً يجب أن تغفره، بل يعني أن لا تتدخل بشؤون الآخرين ولا تشعرهم بالغضب لأنهم يختلفون عنك، فالتسامح جماله في أنه من المعاني المدنية التي ترسخ المحبة في المجتمع. لكن الخطأ الذي يرد في فهم معنى التسامح أن يظنّ البعض أن التسامح يعني السماح للآخر بأن يختلف، وهذا فهم خاطئ، لأن الآخر سيختلف بفسحة القانون والنظام، فهو يتمتع باختلافه عنك بحماية القانون، لكن التسامح هو أن تكون مستوعباً غير غاضبٍ منه ولا حاقدٍ عليه ولا تود أن تنتقم من اختلافه عنك. يقول محمد عابد الجابري عن التسامح إنه:”ظهر في القرن السابع عشر الميلادي، في زمن الصراعات بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، حينما نادى أولئك بحرية الاعتقاد وطالبوا الكنيسة البابوية بالتوقف عن التدخل في العلاقة بين الإنسان وربه، ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية هي التي تحدد “قانون الإيمان” وهي التي تمنح صكوك الغفران وتحتكر السلطة الروحية”. فالتسامح تاريخياً ظهر في ظل بحث الإنسان عن استقلاله عن السلطات التي تهيمن عليه وتمنعه من الحركة والاختلاف في رؤية الأمور، كانت الكنيسة تفرض كل شيء، والمجتمع يطيعها، وحين يخرج الإنسان على سلطة الكنيسة ينبذونه، التسامح حين رسخ في أوروبا منح الإنسان حق الاختلاف بقوة القانون، وبقوة الأنظمة. من الخطأ أن نعتبر التسامح بين طرفين عبارة عن غفران من أحدهما للآخر، بل التسامح أشمل من ذلك بكثير. في مجتمعاتنا العربية والإسلامية لم نطبق التسامح كما يجب، بل أخطأنا بفهم التسامح، حيث يفسرونه على أنه “التسامح مع الآخر” وهذه لفظة تنطلق من أن المتكلم هو المركز وغيره هو الهامش، أو أن غيره أقلية تعطى حق الاختلاف لا بقوة القانون وإنما بمزاج زعيم الطائفة الذي يضع من نفسه فوقية ما يظنّ أنه التسامح، ولم يعلم أن التسامح لا يكون بين طرف أقوى وطرف أدنى، بل بين طرفين متساويين في الاختلاف. من الأخطاء التي تشوب معنى التسامح لدينا قولهم “التسامح مع المخالف” ولم يقولوا المختلف، لأن المخالف ذلك الذي ترك الطريق الصحيح وزاغ عن الحق، فيمكن التسامح معه، ولو قالوا المختلف لكان أقرب إلى معنى الخيارات في رؤية الحقيقة والحق والفكرة والطريقة التي كون بها فكره. الجابري وضّح أن التسامح في بداياته كان مرتبطاً بالخروج من هيمنة الكنيسة وظلمها، وأرى أن التسامح لدينا يجب أن يكون منقذاً لنا من الرأي الواحد، والحق المطلق الذي لا صواب غيره عند البعض، بل أن يكون التسامح هو مانح الاختيارات للإنسان في حياته. أتعجب أشد العجب أن سلوك التسامح الذي برز وبدأ يتشكل منذ القرن السابع عشر لم يصل إلينا ولم نصل إليه، حيث يبدع المخالف لنا حتى في مسائل السواك والمسح على الخفين، وتصل الحال إلى الزندقة والتكفير، حتى أن أحد المفتين قال إن من حرّك أصبعه للتشهد كثيراً قد يصل به الحال إلى الكفر لأن هذا استهزاء بالشهادتين، وهذه الفتوى مثبتة ودليل واضح على أننا نحتقن لأي خلافٍ أو اجتهاد ونكاد نصل إلى نفي بعضنا، وإقصاء بعضنا حتى أحياناً ولشدة الخلاف تتخيل أن كل إنسانٍ يجب أن يسكن لوحده في قارةٍ مستقلة لأن كل شخص يريد تحويل بقية البشر إلى مشابهين له، وهذا لا علاج له إلا بالتسامح. تركي الدخيل WWW.TURKID.NET
جميع الحقوق محفوظة 2019