بعد أكثر من ألف عام على رحيل شاعر الدنيا؛ أبي الطيب المتنبي (303 – 354هـ)، (915 – 965م)، وبعد مؤامرات كثيرة كان قد حاكها ضده خصومه لهدم بنيان أسطورته؛ ظل الرجل شامخاً كجبل، وبقي أعظم شعراء العربية، ولم تزِدْه كراهة خصومه له إلا شهرة، وعظمة، وسطوعاً، وإعجاباً به متزايداً، حتى صار في تاريخ ثقافتنا العربية مبدعاً مُغامراً بشعره في نحت حياته، ومُقامِراً بحياته من أجل أن يحيا شعره، بل هو قد مثّل وطناً من الشعر لطالما تزاحم أحفاده الشعراء على الانتساب إليه، فاستحقَّ بذلك صفة الشّاعر… الشّاعرِ، حيث «كان أبو العلاء المعري، إذا ذَكَرَ الشعراء، يقول: قال أبو نواس: كذا، قال البحتري: كذا، قال أبو تمام: كذا، فإذا ذكر المتنبي، قال: قال الشاعر: كذا».
ولا عجب، وأمر المتنبي على ما ذكرنا، من أن يزداد مُريدوه يوماً بعد يوم في جغرافيتنا العربية، ويسهم هو نفسه نهاراً بعد نهار، ومن حيث درى أو لم يدر، في عقد الصلات بين الأجيال الجديدة ولغتهم العربية من جهة، وفي تأسيس مفاهيم الجمال والخير، ومقاييس الحكمة والمجد، ومعايير الإبداع ومعاني الفخر، خصوصاً عند من يقصدون بلاطه، من جهة أخرى.
يقول د. مبروك المناعي: «قد تكون وسائل الاتصال الحديثة، أسهمت، اليومَ، في وصول المتنبّي إلى أعداد مهولة من البشر، إلا أن شهرته قديمة صاحبته منذ كان حياً (القرن الرابع الهجري) برغم قلة وسائل الاتصال أيامها – ثم تعاظمت بعدها حتى قال ابن رشيق قولته الشهيرة… وابن رشيق، هو أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني ( – هـ)، مؤلف كتاب: «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده»، وفيه بَوَّبَ باباً للمشاهير من الشعراء، فقال: «وليس في المُوَلَّدِينَ أشهر اسماً من الحسن أبي نواس، ثم حبيب، والبحتري، ويقال: إنهما أخملا (أي تجاوزا) في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مُجيد، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي، وابن المعتز، فطار اسم ابن المعتز، حتى صار كالحسن في المُوَلَّدِينَ، وامرئ القيس في القدماء؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يكاد يجهلهم أحد من الناس، ثم جاء المتنبّي… فملأ الدنيا وشغل الناس»!
ألم يقل المتنبي:
أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا ويَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاهَا ويَختَصِمُ
ومن عظمة المتنبّي أن جُلَّ أبياته ذهبت أمثالاً، يُردّدها ويحفظها العامة والخاصة، ومن عجائب أبي الطيب أن أحد أهم ناقديه؛ الصاحب إسماعيل بن عَبَّاد (تهـ)، ألّف كتاباً انتقى فيه أشهر أبيات المتنبي هو: (الأمثال السائرة من شعر المتنبي)، وابن عباد، مُجايِّلُ لأبي الطيب، والكتاب امتداد لظاهرة جريان أبيات المتنبي على الألسنة، بل وانتشارها في صروف الأزمنة، فإذا هي قد شرّقت في الناس وغربت، وأصبحت أمثالاً تضرب، وتسير بها الرُّكبَان، وها هو أبو الطيب يقول كأنَّما يتحدث عن شِعرِهِ، دون فَخرٍ:
فَشَرَّقَ حَتَّى لَيْسَ للشَّرْقِ مَشْرِقٌ وَغرب حَتَّى لَيْسَ للغرب مَغرب
ويقول:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا مِنْ رُوَاة قَصَائِدِي إِذَا قُلتُ شِعْراً أَصبَحَ الدَّهْرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بِـــهِ مَـــــــنْ لَا يَسِيرُ مُشَمِّراً وغَنَّـــى بِــــــــهِ مَن لَا يُغَنِّي مُغَـــرِّدَا
ويبدو أن الوزير الأديب، الصاحب بن عبَّاد، وضع كتابه (الأمثال السائرة)، إما نزولاً عند رغبة أحد حكام دولة بني بويه، وهو فخر الدولة، أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه، (تهـ)، وكان الصاحب وزيراً له، أو بغية الحصول على رضا فخر الدولة، ففي المقدمة يشير ابن عبَّاد، إلى إعجاب الحاكم البويهي بأبي الطيب، وأن أبيات المتنبي تجري على لسان فخر الدولة، ويستشهد بها في أحاديثه.
ومن وجهة نظر الصاحب ابن عبَّاد، على الأقل، فإن هذه الاختيارات، هي زُبدَة زُبَدِ أبيات أبي الطيب، ولا يَرِدُ على الذهن، تأثير ما جرى بين ابن عبَّاد والمتنبي من خصومة، على اختيارات الأبيات، فالكتاب مُهدى من وزير نشأ في بلاط أمراء بني بويه، متعاقباً على التوزير أميراً بعد أمير، ولا يمكن لعاقل كابن عَبَّاد، أن يُقحِم خصومته الشخصية، في هديته لأميره، فمن أراد أن يُهدِي نَقَّى الهديّة من الشوائب.
وإن تعجب فعجب أنَّ الصاحب، كان قد وضع كتاباً قبل هذا الكتاب، وَسَمَهُ بـ«الكشف عن مساوئ شعر المتنبّي»، وحشر فيه ما يوافقه عليه البعض، وما لا يوافقه عليه، إلا من أبغض المتنبّي، لعلة شخصية، لا هي علمية، ولا فنية. ويبقى سؤالٌ جديرٌ بالطرح، هنا: هل الصاحب بن عَبَّاد، وإن بالغ في خصومته لأبي الطيب، وعداوته له، كان مُتَذَوِّقاً لشعرِ المتنبّي؟!
وأكادُ أزعمُ، تأكيداً، أنَّ ابن عَبَّاد، معجب بالمتنبّي، وخصوصاً، إذا علمت أنَّ سبب خصومته لأبي الطيب، كان طلب ابن عَبَّاد المتنبّي ليقدم إليه، فيُقَاسِمه ما يملك، وكان حينها شاباً، لم يُوَزَّر، فلم يُجبهُ المتنبي، فوقع ذلك في نفسه موقع ألم، أولد ضغينة، وانتقاماً. لكن ذلك لا ينفي أصل إعجابه بشاعرية أبي الطيب، وإلا لما بعث للمتنبي طامعاً في زيارته له، والبقاء عنده!
جميع الحقوق محفوظة 2019