بقلم: #تركي_الدخيل
مرَّ على العبد الفقير إلى الله تعالى زمنٌ، كان يحفل فيه بأكناف جمع من الأمهات، اللاتي كانت الحياة بهن رائعة بديعة بهيجة خلاَّبة، فكُنَّ ينابيع فضائل، وسحائب قيم، ومنارات حنان، وجبال محبة، ولم تبقَ اليوم منهن واحدة، أحسن الله ضيافتهن، ووسع مراقدهن، وأعلى درجاتهن.
وهن: والدتي؛ مزنة المحمد العطيشان، وجدَّتي لأمي؛ حصة المحمد الدخيل، وجدَّتي لأبي؛ لطيفة الدهش التويجري، وجدَّة أبي؛ هيلة المحمد المسفر، غفر الله لهن مغفرة واسعة.
ولا تسل عن فيض فضائلهن الوافر، ولا عن ما كنا ننعم به من المحبة الصادقة التي نتنفسها بسبب جمع الأمهات العظيم هذا.
وإذا كانت الحياة في ظل أم واحدة، حياة غنية ثرية جميلة جليلة قيِّمة، فما بالك بمجموعة من الأمهات، يغدقن عليك بصنوف قِيَمٍ تصلك بأسلوب عجيب من التعليم بالحب، فتحفل بمعلومات هذه القيمة أو تلك، وتتبناها، وتحمل لواءها، إذ تلقيتها في سياقاتٍ، لا يتقنها غير الأمهات العظيمات.
كلما تأملت ما وضعه الله في الأمهات من شلالات عطاء، استحضرت عظمة الله في خلقه، فليس لعطاءِ أمٍ عدٌ ولا حدٌ ولا صدٌ ولا ردٌ، ولا غرابة في تجدد العجب منه يوما بعد يوم.
أكاد أجزم بأن من ملامح تشكل النفسية السوية لدى الرجل، أن ينشأ تحت عناية جمع من النساء، وكلما كانت علاقته مع المرأة علاقة من ينهل من عطائها، حتى يشب عن الطوق، انعكس ذلك على نجاح حياته المستقبلية. فالمرأة عنصر التوازن الرئيس في هذه الدنيا.
وأظن تفسير قول الرسول صلى عليه وسلم: “حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء”، بأنه يعني العلاقة الجسدية مع المرأة، تفسير لا يليق بمقام النبوة، بل حُببت له النساء، بما منحهن الله من قدرة مذهلة في البذل، والعطاء، للأولاد، والأزواج، والآباء، والأمهات، والإخوة، والأخوات، امتدادا لغيرهم.
ويا لحسرة ألمي على فراق أمهاتي، رحمهن الله، ومع ما تفضل الله به علي من برهن ووصلهن، إلا أني أتلهف لأن يعود الزمان بهن، فأزداد من لقياهن وأَعُبُّ من زلال مائهن، مستمعا مستمتعا، منصتا تمام الإنصات، راصدا لجليل طباعهن، وجميل أخلاقهن.
وأقول لمن لا تزال فرصته سانحة، أسرع إلى ما يتحسر عليه غيرك.
حفظ الله الحي من الأمهات، ورحم سبحانه الراحلات منهن، والله يرعاكم.
هيلة المحمد المسفر: أم الأمهات… الأرستقراطية المتواضعة!
استقر في ذهني منذ زمن، أن الله مَنَّ عليَّ بهذه المنحة العظيمة، المُمثَّلةِ بتوفُّر أربع أمهات ذوات صلة قرابة، وإلا فثمة غيرهن برضاع ونحوه. وكنتُ أُقَدِّم رِجْلًا وأؤخر أخرى في موضوع الكتابة عنهن رحمهن الله، وذلك إجلالا لمقامهن، وخشية أن أُقَصِّر فيما سأكتب، عن بلوغ ما يليق بهن من مكانة.
لا أقول إني بكتابتي هذه، حققت ما كنت أخشى ألا أحققه سابقا، لكن يظهر لي أني أصبحت أكثر جرأة من ذي قبل.
ربما صرتُ أرى أن الكتابة أوجب من الحرج الذي كان يراودني قديما.
شرعت أكتب عنهنّ، لعلمي بأن الإتقان متعذر، والكمال لا يناله بشر، إذ هو لله تعالى وحده.
توكلت على الله واجتهدت وكتبت، ومن فضل الله أن المخطئ لا يُحرَمُ أجرا، بل يناله أجر الاجتهاد.
إثر دعوات الأنقياء -من الإخوة والأخوات- جزاهم الله كل خير، لأمهاتي العظيمات، بالرحمة والمغفرة، تأكدتُ أنه لو لم ينلني من الكتابة إلا هذه الخصيصة العظيمة، لقَنعتُ بها، أما وقد أنعم الله علينا بسحائب الدعوات، وبفضله العميم، فإني على يقين أن بركة أمهاتي، ممتدة لتغمرني، بحول الله، بعد رحيلهن، وسَّع الله عليهن، وعاملهن جلَّ شأنه بلطفه، وعظيم كرمه.
وقد حظيت بفضل وجود الأمهات مجتمعات، فقد يسّر الله لي أن عشت مع جدّتي لوالدي؛ لطيفة الدهش التويجري، رحمها الله، 21 عاماً، وهي أولهن وفاة، إذ توفيت في عام 1414 هـ، (1994)، وبعدها بثلاثة أشهر توفيت جدَّة والدي؛ هيلة المحمد المسفر، رحمها الله، في العام ذاته.
عاشت الجَدَّتان في بيت واحد طوال سنوات زواج جدي عبدالعزيز الدخيل، رحمه الله، بجدتي لطيفة، وكانت أمه هيلة، تسكن بيته، منذ زواجه حتى وفاتها، عليهم رحمات ربي.
وقد رأيتُ من عناية جدتي لطيفة وبِرِها بأم زوجها، ما يفوق عناية البنت بأمها، وأظن وفاة الثانية بعد الأولى بأشهر، كان له صلة بألم الجَدَّة الكبرى على رحيل زوجة ابنها، التي كانت تحبها كبنتيها، وربما أكثر، فقد عاشتا معا أكثر مما عاشت جدتنا هيلة مع بنتيها.
كان جدي قطب الرحى في الأسرة الصغيرة والكبيرة، وكانت والدته أمًا أو جدَّةً، أو جدَّة أبٍ، أو جدَّة أمٍ، لفروع كثيرة من الأسرة، فلها بنتان وابنان، هم: حصة المحمد الدخيل (وهي جدتي لأمي أيضا)، وشقيقتها لولوة، وشقيقهما أحمد، وشقيقهم عبدالعزيز. ولكل منهم نسل مبارك، وذرية من الأبناء، وتزوج الأبناء ورزقوا بخلف.
وبالنسبة لجدتنا الكبرى؛ هيلة المسفر، أكون في طبقة رابعة، والطبقة تعني جيلا، وعمر الجيل نحو 30 عاما.
وبذكر اسمي ستتضح الطبقات.
فأنا: تركي 1 بن عبدالله 2 بن عبدالعزيز 3 بن محمد 4 الدخيل. ومحمد هو زوج هيلة.
وكان في الأسرة من هم في طبقتي، ولهم أبناء، وعاصر الأبناء جدتنا هيلة.
ومن اللطائف في الأسرة، ما يتداولونه على سبيل الطرفة، فيحكى على لسان أبناء الطبقة الخامسة، قولهم: يا جدتي لنذهب إلى جدتك.
وأدركتُ جدتي هيلة، أنزل الله عليها الرحمات، وكانت امرأة فيها من الصلاح والتُقى والطيبة والمحبة، ما كان ينال ببركتَه الطبقات الخمس من ذريتها، ويفيض عليهم.
وقد عاصرتها تدنيني وأنا في المرحلة الابتدائية، لأتابع وأصحح لها قراءتها للقرآن من مصحف كبير، تتبع الكلمات التي تقرؤها بأصبعها، وبدت الحناء تُزيّن نهاية أصابع يدها. وكنت أسرح في رسم الحناء، وما يظهر على يدها وأصابعها من تجاعيد السنين!
وكم من مرة غُصتُ في خيالات الأسئلة: كيف كانت هذه السيدة الطاهرة في يوم كانت عشرينية أو ثلاثينية، وكيف كانت الحناء على أصابعها الغضة في شبابها؟
لم تكن جدتي تخطئ في قراءتها، لكنها تريد أن تغمرني بالسعادة، وأنا ابن حفيدها، الذي وضعتني بعظمتها في موضع من تلجأ إليه ليكون مرجعا لها، كل ذلك لأنه درس بضع سنوات في الابتدائي.
كانت تعرف أنها بذلك تُقَرِّبني منها، وتمنحني بركة سماع القراءة وحضورها، وتزيد قناعتي بجدوى الدراسة التي جعلتني أصحح قراءة أم الأمهات، وطيبة الطيبات.
عجيبة هذه القلوب التي يفتح الله عليها، بفتوح لا يدركها كبار المتخصّصين في التربية.
ومن عجائبها، رحمها الله، أنها واحدة من قلائل جيلها، ممن يحسن قراءة القرآن، وهذه خاصية كانوا يعون قيمتها، بما عمر الله قلوبهم من إيمان ويقين.
ونالت هذه الخصيصة، لأنها ابنة محمد بن عبدالله المسفر، رحمه الله، أحد أهم وجهاء بريدة ورجالاتها وتجارها (ت 1376 هـ)، وبيت محمد المسفر، لوجاهته وثرائه انعكاس على وعيه، فعلّم بناته قراءة القرآن، وأصبحت جدتي واحدة من نساء بريدة، اللاتي يُحسِّن قراءة كتاب الله، ولا أحسبهن كُنَّ يزدن آنذاك على عدد أصابع اليد الواحدة. أُقَدِّرُ أن ذلك كان قبل أكثر من مائة عام مضت وزيادة.
وبقدر إتقانها لقراءة القرآن، وهي تحفظ معظمه، إن لم تكن تحفظه كله، إلا أنها لا تعرف أن تقرأ خارج مصحفها ربما حتى اسمها.
وكان التعليم يقتصر على قراءة بضعة سور من كتاب الله، ثم على المتعلم أن يجتهد في التعلم الذاتي.
ولا يُعلم تاريخ ولادة جدتنا هيلة بطبيعة الحال، إلا أن شبه المؤكد أنه قبل نحو 120 عاماً، من وقتنا هذا.
فقد رُزِقَت ببنتيها، ثم بابنيها، وجدِّي عبدالعزيز، أصغرهم، وهو رحمه الله توفي، وقد بلغ عمره نحوا من خمسة وتسعين عاما، ومضى على وفاته عام 1438 هـ، (2017) سبع سنوات، فهذه مئة وخمس سنوات تقريبا، وشقيقه أحمد يكبره بسنتين أو ثلاث، ولولوة تكبر أحمدَ بنحو ست سنوات أو سبع، وحصة تكبر لولوة بنحو من خمس سنين، تلك 120 عاما، والله أعلم.
لقد كانت جدتنا هيلة المسفر، رحمها الله، أرستقراطية متواضعة. وهي من يدير غرفة المؤونة في بيت جدّي، وتربط مفتاح الغرفة التي تعتني بقفلها، بما يشبه الحبل، لكنه بلا فتيل، وهو من جنس قماش ثوبها، متصل بجيبها الأيمن.
كانت غرفة المؤنة فيها أجناس من الأطعمة، فمن صندوقين أو ثلاثة للفاكهة، إلى مكسرات في تنكة، وحلويات السكاكر، إلى علب البسكويت، وليس نهاية بصناديق زجاجات المشروبات الغازية. كانت تمنحنا ما يبهجنا بسخاء، لكن الجميع يدرك جيدًا، أنها تُسعد الصغار بالعطايا، دون أن تتخلى عن حزمها الراقي في الإدارة والتدبير، رحمها الله، رحمة واسعة.