الجار القريب، والصديق القديم، أستاذنا سمير عطا الله، متَّعنا الله بعافيته وبحرفه، الذي لا تستقيم شمس نهارنا من دون قراءته، ومشاركته من نحب، إذ نتوسم فيه الأدب والظرف وحب الشعر والشعراء، ذكر في مقالاته، الأسبوع الماضي، العبد الفقير إلى الله، ضمن حديثه عن المتنبي.
ضحكت كثيراً على ما أصابه في دار «العبيكان»، من طلب الاعتذار للمتنبي، على رؤوس الأشهاد، وكم تمنيت أن أكون حاضراً، لأطلب من أستاذنا، الذي أعرف مقدار حبِّه لأبي الطيب – وإن لم يصرح خمسة آلاف مرة، ويستغفر عما بدر منه تجاه المتنبي – بأن يحدثنا ولو قليلاً عن «معجز أحمد»، فيقيني جازم بأن من نجا من شعر أبي الطيب، ولم يقيده بنفسه، فيكفيه أن تهديَه نسخة من «معجز أحمد» كي ينضم إلى ركب المهتدين السائرين خلف معاني الرجل التي لا تنقضي، وأتفهم تماماً إلباس مثله تهمة مهاجمة أبي الطيب؛ لأن الكبار محتاجون دائماً للاختلاف حول الرجال، الأفكار، وحتى الأحداث التاريخية المفصلية كي يكون لها شأن.
بعض التواطؤ على الاتفاق، مجاملة لحفظ الوقت، وليس أبو نصري ممن يأخذه في الشعر لومة لائم.
ولا شك أن محبَّ أبي الطيب، كغير محبه في استواء الحال، كما يقول أهلنا المتصوفة، فكلا الحالين محقق علو شأن المتنبي التي ضمن بها الخلود بعده، وما حرفي الآن، ولا اعتذارك القشيب، سوى إقرار بعظمته، المتأكدة يوماً بعد يوم، على رؤوس الأشهاد:
وتركك في الدنيا دويّاً كأنمَا
تداول سمع المرءِ أنمله العشر
وأما عني، فموقن أن مثلك يخفي حبه للرجل، ويخاف من المحبة على الحاسدين، فحبك للمتنبي فعل قلبي ونية ترفض التلفظ بها علانية أمام السادة الحنابلة، وسط الرياض، وحالك من حال صاحبك في نونيته، التي مدح بها قاضي أنطاكية أبا عبد الله محمد الخصيبي، حين قال مخبراً عنك، كأني أراك:
يستَخبِرونَ فلا أُعطيهِمُ خَبَري وما
يطيشُ لهُم سَهمٌ من الظِنَنِ
ولست أسوق الشاهد، معتبراً أبا نصري كثير التبرم من الناس، فحاشاه ذلك وهو أرق من النسمة، لكني أسوقه تعاطفاً معه في محنة تهمة تأبى الأفول، خصوصاً أن جهود المتنبي التنكرية باءت جميعها بالفشل، حتى طاشت سهام ظنون الناس فيه، لكني أسوق البيت متهماً أبا نصري بحب سري مفضوح – مهما خبأه وواراه عن الأعين – للمتنبي، ومحذراً إياه من بخل قد يصيبه بمشاركتنا ما دونته يداه على جنبات الديوان الأحمر الضفتين، وما خرج به من مسيرة عريضة لم يغب عنها أبو الطيب، والأستاذ سمير جليس الكبار، كثير الترحال، العارف بنفوس الناس جيداً، من بيروت إلى باريس، ومن الرياض إلى مونتريال.
وعلى ذكر الهروب من السياسة إلى فياض الأدب، فقد نقم أبو نصري على العبد الفقير إلى الله، أن يتخذ من الشعر والأدب موضوعاً لبعض مقالاته، وكأنه وهو دودة الكتب، والقارئ النهم، لم يقرأ ما نقله ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» (1-21)، من قول العرب: «من أراد السيادة: فعليه بأربع: العلم، والأدب، والعفة، والأمانة». ولم يخرج عطاالله عن واحدة منها. وأحسبه علم بقولهم في الصفحة ذاتها من الياقوت نفسه: «من كثر أدبه كثر شرفه، وإن كان وضيعاً، وبعد صوته، وإن كان خاملاً، وساد، وإن كان غريباً، وكثرت الحاجة إليه، وإن كان حقيراً»، وأحمد الله أن أستاذنا الكبير يمكن أن يشهد لي بعدم مطابقة – أي وصف ورد في المقولتين الأنقتين، بعد «إن»، أفلا يزيد ذلك من رفعة الإكثار من الأدب، وإن لم أصب إلا شرف المحاولة، ولو لم تكن المحاولة إلا امتثالاً لما نقله المبرد في «الكامل» (1-65) من قولهم: «عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة»، لكفى العبد الفقير، ليتوجه إلى الأدب، مزية لا منقصة.
ولن أشتكي شكوى صاحبنا، المحسود حتى على موته، لكني وأنا أسهر الآن، كي أنتصف لك ممن لم يجدوا فيك علة، فرموك بأقسى العلل، وهي البعد عن بحور المتنبي، متذكراً صورة من صوره العجيبة، التي لا يصورها سواه:
أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني
وفرق الهجرُ بين الجفن والوسن
روح تردد في مثل الخلال إذا
أطارت الريحُ عنه الثوب لم يَبنِ
وأذكر أني كنت مرة في دروب بيروت، سمعت وقرأت لبعض الأصدقاء وقتها، أن أبا نصري يقول في المتنبي كذا وكذا، فلم أقبل قول الوشاة، ولكني عزمت النية على أن أهديك كتاباً كنت أبحث عنه في بيروت يومها، والطريف أني نويت أن أرسل إليك نسخة وقتها، وما زالت النية في محلها لم تخرج ولم تشخ بعد، لكني لم أجد سوى نسخة واحدة تهلهلت الآن في مكتب أخيك الذي يحبك، وهي الطبعة الثانية من «معجز أحمد»، تحقيق عبد المجيد دياب، في أربعة أجزاء، نشر الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، وفي نيتي الآن أن أؤجل إشاعة ضياع النسخة الأصلية من «المعجز» بين محبي أبي الطيب، حتى يجمعني الله بك.
ولست بمصدق في أستاذنا قول الوشاة، ولا نقل الناقلين؛ فيمن لا أعرف، فكيف بمن أعرف وأحب:
غيري بأكثَرِ هذا الناسِ ينخدِعُ
إن قاتلوا جبنوا أو حَدَّثوا شَجُعوا
أهلُ الحَفيظَة إلّا أن تُجرِّبُهُم
وفي التجاربِ بعدَ الغَي ما يَزَعُ
أما غيرة أهل نجد، على العربية عموماً، تأكيداً لما واجهته يا أبا نصري في دار «العبيكان» الكرام، فهو مما يبشر بالخير، ويسعد كل محب للأدب واللغة.
ولا أنسى، إن أنساني السهر وفرحي بحرفك واعتذارك، الذي سيهاجمك عليه محبو شكسبير، أن أختم بحوار علي بن أبي طالب مع ابن عباس، رضي الله عنهما، فقد قرأ عليه الآية: «ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك»، فأنكر عليه ابن عباس، فقال علي: هذا من الترخيم في النداء، فقال ابن عباس: ما أشغل أهل النار عن الترخيم في النداء؟ فقال علي: صدقت. وإن دلت القصة على اهتمام الصحابة بالنحو، فإن شأني وإياك مع المتنبي وشوارده، ومواقف الناس منه إلى اليوم، دلالة بينة على أن تقدم أبي الطيب على زمانه، فشعره، والنقاش عليه، باق لـ4900 عام من الآن!