قيمة العاقل في انتقاء كلماته. ومن جميل عبارات الشافعي وصيّته للإنسان بأن “يكسو ألفاظه”. فاللين واللطف مع الآخرين من صميم الأخلاق. وتبدو أخلاق الإنسان بوضوح في مستوى تأدبه مع مخالفه فكراً أو مذهباً. وفي الآثار أن بعض السلف كانوا يتمنون لخصمهم أن يغلبهم بحجته، وأن يجري الله الحق على لسانه. لدينا انقلبت الموازين، الكل يتمنى إحراج الكل! قبل أيام أثار داعية على إحدى القنوات نبرةً طائفيةً تمنينا أنها لم تصدر منه. سجال بينه وبين متصلةٍ تتحدث عن أحد الصحابة هي تثني عليه والشيخ ينتقده. مثل ذلك الاتصال يعيد بثّ الطائفية في النفوس، ويشعلها في ظرفٍ سياسي محتدم. إن إعادة بعث الخلافات التاريخية بين الصحابة على النحو الذي تم كان يمكن أن يتصاعد أثره على الأمن الاجتماعي في الخليج بسبب الاحتقان الطائفي الحاضر وبقوة في مجموعةٍ من المناطق. وحين يعيد هذا الشيخ أو غيره مسألة العدالة والتجريح بين الصحابة على أساس موقف الصحابي من الآخر فإن النفوس تشحن وتتصاعد حالة الكراهية إلى درجةٍ يصعب ضبطها، والدين له قدسيته، وهو أغلى ما يسكن الإنسان في روحه، وحين تخاض المعارك بين المذهبين السني والشيعي، فإننا نشعل المعارك من دون أن نحسب آثارها على المدى القريب والبعيد، لأن الفرد حينها يشعر أنه يدافع عن الدين بينما هو منغلق على مذهبه وهذه هي الخطورة. في الأزمات تبحث الأمم دائماً عن المشتركات. لو أخذنا دول الاتحاد الأوروبي كمثالٍ للاتحاد الرائع، سيلفت نظرنا التركيز على المشتركات. هناك خلافات واختلافات كبيرة بين الأوروبيين، بدءاً من الاختلافات الدينية داخل المسيحية، وإلى التاريخ المختلف، واللغات المتعددة. تاريخهم فيما بينهم لا يشرف، فهم قاموا بالحروب تلو الحروب فيما بينهم، لكن حين جدّ الجد في مرحلةٍ تاريخية بعد الحرب العالمية الثانية قرروا إنشاء الاتحاد. رغم كل الاختلافات والفروقات فيما بينهم إلا أنهم استطاعوا تأسيس اتحاد قوي، وذلك بسبب بحثهم عن المشتركات. نحن العرب نبحث كثيراً ما نبحث عن الأشياء التي نختلف فيها ونهمل الأمور التي نشترك فيها. ليس على مستوى الشعوب فقط، بل وحتى بين الأفراد. فمع أن هناك عشرات المشتركات بين الفرد والآخر، غير أن سبباً واحداً كافياً لنبذ الآخر وإقصائه. ميزة نبذ الخطاب الفئوي الذي يطغى دائماً على الخطابات الطائفية أنه يشتت الرؤية ويدمر المشاريع. الخلافات التاريخية أو المذهبية بين المسلمين لا يجب أن تحكم علاقاتهم ببعضهم البعض. في لبنان أكثر من عشرين طائفة، وكل طائفة تنفي الآخر، لهذا صعب عليهم البحث عن المشتركات، ويريد الزعماء للطائفية أن تكون دائمةً حتى يستمر نفوذهم وتستمر مخصصاتهم. بقي لبنان أسير الحرب الأهلية، وحين انتهت وإذا بالاقتصاد قد انهار، ويقيم في لبنان أربعة ملايين شخص، بينما هاجر أكثر من أربعة عشر مليون إنسان! هذه هي نتيجة الطائفية أيها السادة حين تغلب المشتركات وتدمرها. أحد الدعاة من قبل أطلق تصريحاتٍ نارية طائفية ضد شخصيةٍ شيعية، والشيعة بادلوا السنة بنقدٍ شرسٍ أيضاً، وأخذ الاحتقان الطائفي مبلغه، وفقدت الحكمة للأسف عند بعض الدعاة، فنسينا الأخذ باللين من القول، واتجه بعضهم للحديث القاسي عن شخصياتٍ تاريخية، والنبذ القاسي للمتصلة المختلفة! هذه المرحلة الحساسة في الخليج لا تحتمل الخطابات الفئوية، ولا يصلح أبداً أن نعيد خطاب الطائفية، بل علينا أن نعود إلى انتماءاتنا الوطنية، وأن نبقي الخلافات المذهبية بعيداً عن مواضع السجال ومنابر الإعلام. وليحترم كل إنسان الآخر أياً كانت طائفته، والشيعي سيبقى شيعياً، والسني كذلك، فلا تلغي طائفة الأخرى، وقدرنا في التعايش فيما بيننا لا في التنافي والتضاد، فلنقل لبعضنا “القول اللين” ولنكسُ ألفاظنا بطيب العبارات.
جميع الحقوق محفوظة 2019