وها أنا ذا أبلغ النصفَ الثاني من الأربعينِ يا بنيّ، وقد شَابَ من أطرافِ شَعْري ما تراه، وما ذاكَ إلاّ من تصاريفِ الأيام ومُعاشرة الناس، أذكرُ عن والدي – متّعني الله بعمره – أَنّهُ قَالَ لي يوماً ما أنقلهُ لكَ الآن، وأحسبهُ تعلّمَ قولتهُ هذه من جدّي رحمه الله:
عليكَ بالتأدبِ مع البَرِ والفاجر، والبدءَ بالسلام، والإقبال على الناس بوجهكَ كُلِه، وما استطعتَ من وقتكَ ومالكَ دونَ أن تنتظرَ منهم شيئاً، وروّض نفسكَ على ذلك، فليسَ أصعبُ من حُسْنِ الخلق إلاَ اعتيادهُ يا بني. فالكرمُ عِنْدَ العرب يُخفي كل عيب، وهو الكرمُ بالمال والوقت، والوجه الطلق، وحُسن الخلق.
ولقد بحثتُ يا بني، فما وجدتُ في وصايا الآباءِ للأبناءِ إلا حثَّاً على ما أحثُّكَ عليه وأوصيكَ به، اللهم إلاَ ما نقلهُ الرُّواة لنا عن نهد بن زيد، حينَ جَمَعَ بنيه عند موته ليخطبَ فيهم قائلاً:
«أوصيكم بالناس شراً، لا تقبلوا لهم معذرة ولا تقيلوهم عثرة، أوصيكم بالناس شراً، طعناً وضرباً، قصّروا الأعنّة، أشرعوا الأسنّة، وارعوا الكلأ وإن كان على الصفا، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأفسدوه على من سواكم، فإن غشَّ الناس يدعو إلى سوء الظن، وسوء الظن يدعو إلى الاحتراس».
ولا أخفيكَ وأنا أبوك: قد يتزينُ للبعض بأنَ لسوءِ الظنِ يداً طويلة تُعينهم على قطفِ ثمرة السلامة عن شجرة العمر، لكنَّ سوءَ الظنِ مُفسدٌ للعيش، مُقصّرٌ للعمر، يأكلُ من جسدكَ ما تأكلهُ النارُ من الحطب، وإن اعْتَدْتهُ فإنكَ لن تهنأ بنومٍ ولا زاد، وصرتَ ممن يتجنبهُ الناس لسوءِ خلقه، وشرّ الناس من يتجنبه الناس اتقاء شرّه. فابذل وسعكَ في حُسن الظن، والرفق بالخلق، وتلمس الأعذار، وأعْسَرُ ذلك ما كان في صغرك، فإنك لاقٍ من الناس عُسراً، وسوءَ ظنٍ وقِلّة حلم، لكنك إن اعتدتَ الطيب في صغرك، علِمتَ في كبرك أن طيبَ الرزقِ وسعته لا يتأتى إلا للحليم الليّن، المتميز على أقرانه بحُسن الخُلق ومداراة الخَلق.
ولا أُخْفِيكَ يا بُنيّ، بأنَني حينَ قرأتُ وصية نهد بن زيد تلك، قبل أكثر من عقدٍ ونصف، ملأتُ سِلالَ وقتي يومها متأملاً ما جاء فيها، إذ كيف يوصي والدُ ولدَه بمثل ذاك، لكني – يا قرة العين – وجدتُ في الناس من يمتثلُ لتلك الوصية، ويرضاها مرآة لوجهه، والقاربَ الذي يركبهُ وأبناؤه، حتى وإن جهلها وما سَمِع يوماً باسم مُوصِيها!
بل دعْكَ من ابن نهدٍ هذا، وتأمل ابن القيم الجوزية وهو يقول: «أدبُ المرء عنوانُ سعادته وفلاحِه، وقِلّة أدبه عنوانُ شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانهما بمثل قلة الأدب». ستجدُ ذلك مدوناً في المدارج يا بُني، على الرف الثالث في مكتبة أبيك، وإن استطعت حفظها فافعل، فلا شيء أثبتُ في السلوك من نصيحة تحفظها صغيراً، فتنسابُ بسلاسة كماء عذبٍ يبانُ ما خلفه، من نبعِ أخلاقكَ من غير تَكَلُف!
وأعلم، فَدَيْتُكَ، أنَّ لكل قومٍ رياضة، فكُن من قومٍ رياضتُهم تقويم النفس على الدوام، واعتزلِ الناسَ بين الحين والآخر، بلا جفاء، واخْلُ بنفسك، (وَمِنْ نفسكَ بعض رفاقك وخلانك)، نادمهم وجالسهم وحاورهم، ففي الحوار كمالُ العقل، وضبطٌ للنفس وتدريبٌ لها على الاستماع. وتذكر أنَ استماعك للناس، وإقبالك عليهم، خيرٌ لهُم ولكَ من أن تعطيهم كلَ مالك، فلا يسعُ مالُ سيئ الخلق زوجته وبنيه، بينما يسعُ كريمُ الخلق البعيدَ والقريب، ولعلّك تعلمُ أن أدبَ المرءِ خَيْرٌ من ذَهَبِهْ.
خُذْ من كلامي هذا ما لا تغيرهُ الأزمان، وزدْ على تلك الصفات ما ستفيضُ به عليكَ الأيام، فإنّ لكلِّ جيلٍ أخلاقاً جديدة، غَيْرَ أن جذر جيِّدها هو نفسه من أول الزمان، وجذر سيّئها هو ذاته منذ الأزل، وتذكر أن يبقى لكَ في الناس ذكر حسن، خيرٌ من أن ينمحي ذكرك، فكيف بأن يبقى سيئه!
وقد مَرَّ بي زمانٌ وأنا أسألُ الأصحاب: أيهما أصعب، حُسن الخلق أو سوءه؟! فأجمعوا على أنَ سوءَ الخلق أسهل، وأنَ تمامَ الأدبِ أصعبُ من قلّته، (حتى تعتاد حسن الخلق وتتشربه، فلا يكون عليك أسهل منه)، فالدُّربة الدُّربة يا بني، واعلمْ أنَ الناس بذكرهم، ولا ذكرَ إلا بصِفَة أو صفتين تبقيان بعد ذِكْرِ اسمك، فتخيّر صفتك من بعد الموت وأنت في دروب الحياة، كي يبتسم بَنُوكَ حال ذكرك، فيبقى حُسن ذكرك محل غيابك.
وقَدْ كنتُ عاهدتُ نفسي ألاَ أوصي أحداً بغير هذا، علَّ ذلك يكون من باقي العمل يا بني، وأنتَ مهجة الفؤاد، فكُن حَسَنَ الخلق، واتّبع وصية جَدّك لأبيك، وكُن أبعدَ الناس عن ضررِ غيرك، إن لم تُتح لك فرصة نفعه. واعلم أني أُحبّك مرّة وأحبُ أخلاقَ الرجال مرتين، فما أحلاهما إنْ اجتمعا فيك، فتزداد محبتك بالدم وحسن الفِعال!
وأجمل بما قاله عمك المتنبي:
«لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْديهَا وَلاَ مَالُ
فَليُسْعِدِ النُطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحال»
وَتَذكّر كيفَ أحْسنَ نهاية ما أبدعهُ عندما قال:
«لَوْلا المَشَقّة سَادَ النّاسُ كُلُهُم
الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ
وَإنّمَا يَبلغ الإنْسانُ طَاقَتَهُ
مَا كُلّ ماشِيَة بالرّحْلِ شِمْلالُ
إنّا لَفي زَمَنٍ تَرْكُ القَبيحِ بهِ
من أكثرِ النّاسِ إحْسانٌ وَإجْمالُ
ذِكْرُ الفتى عُمْرُهُ الثّاني وَحاجتهُ
مَا قَاتَهُ وَفُضُولُ العَيشِ أشغَال».
أيْ بُنيّ:
أما إذا بذلتَ جهدكَ… وفعلت في حسن الخلق وسعَك، فمن لمحَ منكَ ما يُسرّه فهذا أطيب العيش، ومن سَاءه منكَ ملمحٌ، فَعُذركَ أنكَ أحسنتَ الظنَ وكنتَ تحسبك تحسن، والصفح شيمة كل حر.
جميع الحقوق محفوظة 2019