ما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها، إلا وكانت نهايتها مؤذنة بولادة أصغر أبناء الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، في 1918م، فكان المولود خلاصة العقد، ومصدر فرح وسرور وحبور لأبيه وأمه الشيخة سلامة بنت بطي. تأمل الوالدان ملامح وليدهما، فإذا هو يحمل من ملامح جده، زايد بن خليفة، (زايد الأول)، الذي عرف بـ(زايد الكبير)، وهو المولود في 1836، والذي حكم أبوظبي في الفترة (1855-1909)، وهي مدة تزيد على نصف قرن، أهلته مع صفاته القيادية، ليكون زعيماً في المنطقة. أملاً في أن يحمل الطفل المولود شيئاً من صفات زعامة جده (الكبير)، سُمي باسمه.
نشأ الشاب زايد بن سلطان وقد حرص والداه على أن تكون التربية الدينية والهوية العربية، من أهم عوامل تشكيل شخصيته، وما إن شبَّ عن الطوق حتى ظهرت خصال القيادة بادية عليه، وباتت ملامح الزعيم الذي يكتسب قوته من قربه من مواطنيه وشعبه، يتبسط معهم، ويمازحهم، ويعيش مثلهم، حتى لا يكاد أحد يفرقه عنهم، ما يجعله يحترمهم ويحترمونه.
التقط الرحالة البريطاني ويلفرد ثيسجر هذا الملمح، عندما التقى الشيخ زايد في العين في أبريل 1948، مبدياً إعجابه بشخصية زايد، وبساطته، وتواضعه، وطريقته الحضارية التي عامله بها، وتحدث في كتابه «الرمال العربية»، عن «شهرة زايد الواسعة بين البدو، الذين أحبوه بسبب تصرفاته البسيطة غير الرسمية، ومودته، واحترموا شخصيته وفطنته وقوته الجسدية»، وكيف لا يوجد حواجز ولا عوائق في الملبس أو السلوك بينه وبين بقية البدو، الذين كان يشاركهم همهم ويستمع إليهم بصدر واسع وصبر واهتمام دون ملل.
شخصية زايد هذه التي تحدث عنها الرحالة البريطاني يوم كان عمر زايد ثلاثين عاماً، استمرت مع الشيخ زايد رحمه الله، ولازمته طيلة حياته، ولذلك كان يوجه نصيحة للجيل الشاب بحرص وحزم، إذ يقول زايد:«أكبر نصيحة لأبنائي، البعد عن التكبر، وإيماني بأن الكبير والعظيم، لا يُصغِّره، ولا يُضعفه أن يتواضع، ويحترم الناس، أكثر مما يحترمونه».
النصيحة التي وجهها الشيخ زايد في الثمانينيات من عمره، كانت هي ذات السلوك الذي مارسه في الثلاثينيات، وبقي يمارس، بطبيعية، وأريحية، وصدق، بلا تكلف، التواضع، والبعد والتحذير من التكبر.
في الرسالة القشيرية: «التواضع نعمة لا يحسد عَلَيْهَا والكبر محنة لا يرحم عَلَيْهَا والعز فِي التواضع فمن طلبه فِي الكبر لَمْ يجده».
قال المأمون: «ما تكبَّر أحدٌ إلا لنقصٍ وجده في نفسه».
أما يحيى بن خالد بن برمك، فكأنه يحدثنا عن قصتنا السالفة، عندما قال: «لستَ ترى أحداً تكبَّرَ في إمارته إلا وهو يعلم أنَّ الذي نال هو فوق قَدْرِه، ولست ترى أحداً يضعُ نفسَه في إمارة إلا وهو في نفسه أكثرُ ممّا نال». وقيل لبعضهم: فلانٌ غيَّرتهُ الإمارة! فقال: إذا وليَ الرجلُ ولايةً فرآها أكثرَ منه تغيَّر، وإذا ولي ولايةً يرى أنّه أكثرُ منها لم يتغيَّر.
قالت العرب: «ما استُجلِبَت البُغضة بمثل التكبر، ولا اكتُسِبت المحبة بمِثل التواضع».
وعند الحديث عن المؤثرات في صياغة شخصية الشيخ زايد، لا يمكن لأحد أن يتجاوز الدور المهم والمؤثر لشخصية والدته الشيخة سلامة، التي تولت مهام تربية الوالدة والوالد، إثر وفاة والده الشيخ سلطان بن زايد، والابن زايد لم يتجاوز عمره ثماني سنين آنذاك.
نذرت الشيخة سلامة نفسها لتربيتها أولادها، وتأمين سلامتهم، ما جعل تعلق ابنها الأصغر زايد بها يزداد، وتأثيرها فيه يتعمق. وحتى وفاة الوالدة ذات الشخصية الكاريزماتية، في 1970، كانت الشيخة سلامة بنت بطي مصدر إلهام وقوة لزايد وأخوته، ولم تكن رحمها الله تغيب عن خاطره، فكان كثير الثناء عليها، وذكر أفضالها، حتى وفاته غفر الله له.
ولئن كان ذكر زايد لأمه، وتعداد مكارمها، وبيان فضائلها، أحد وجوه البر العظيمة بالوالدة، فلقد لفتني، ربط ذلك بما أورده الزميل زبن بن عمير، في كتابه «إنسانية زايد»، أن أحد كبار السن روى له أن الشيخ زايد، بينما كان يقضي وقتاً مع ندمائه، ذات يوم، وبينما هو مستغرق في التفكير، فرّت دمعة على خده، دون أن يشعر، أو يتنبه أنه ليس وحيداً في مجلسه ذاك. يقول الراوي: تحرَّجنا من الأمر، كيف سنقول له: هل كنت تبكي أيها القائد؟ أو كيف سنسأله عن ما جرى؟ وبينما نحن في ذات الحرج، تنبه زايد، واعتدل في جلسته، ومسح دمعته، بطرف غطاء رأسه، وفتح موضوع الدمعة مع رفاقه، وتَبَسَمَ، وَهُم في صمت مُطبق، ثم قال: لقد بكيت عندما أحسست ونحن في لهيب الصيف، مستمتعين ببرد أجهزة التكييف، وتمنيت أن والدتي لحقت بهذا النعيم، الذي نعيشه. ما استدعى تأثر الحضور، حتى قال لهم الشيخ زايد، ممازحاً: تعوذا من الشيطان.
ذكر القرطبي في تفسيره:«أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل برّ الوالدين مقروناً بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال: (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)، وقال: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)».
* سفير المملكة في الإمارات.