قلةٌ هم الزعماء الذين يكتبون التاريخ. يحفرون منعطفاتٍ تُغير مسارات الأمم، والشعوب. زعيم سنغافورة، ومؤسسها، «لي كوان يو»، وصفه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «بواحدٍ من أعظم القادة الذين مروا على قارة آسيا والعالم».
آمن «لي كوان يو»، بصناعة نموذجٍ آسيوي، لمرحلة ما بعد الاستعمار، من دون التقليد المطلق، لأي نموذجٍ سابق. وضع أسساً وأنظمة كلها تصب في مستقبل الدولة، بما يحقق نتائج استثنائية. كانت طموحاته مثار سخرية الكثيرين، كما كل الأفكار العظيمة الخارجة عن صندوق العادة والمألوف، غير أن الزعيم المثابر، وطوال مدة حكمه 31 عاماً، ركز على بناء الإنسان.
حوّل أرضه من بقعةٍ صغيرة، تعتاش على القاعدة العسكرية البريطانية، إلى دولةٍ من أنجح الدول في التاريخ الحديث، بمعدّل دخل سنوي للفرد يتجاوز الـ23 ألف دولار، ما يمثل ضعف معدل الدخل لدى نموذج نجاحٍ آخر مثل كوريا الجنوبية، وهذه المعلومات وسواها، يعثر عليها القارئ في كتاب لي كوان يو: «قصة سنغافورة- مذكرات لي كوان يو».
تاريخ سنغافورة، مر بصعوباتٍ جمة، يمكن فهمها باستعادة أبرز حقب تاريخها، انطلاقاً من كتاب، «بناء سنغافورة- النخبوية، والإثنية، ومشروع بناء الأمة»، مشترك التأليف بين عالم الاجتماع، إزلاتكو إسكربس، والمؤرخ مايكل دي بار. بين (1819-1942) استغلت بريطانيا سنغافورة، لأهمية موقعها الاستراتيجي، وأهمية التجارة الحرة، والمهاجرين، وطبيعة الحكم البريطاني، والغزو الياباني.
أما ما بين (1945-1955)، فعرفت بـ«الصحوة السياسية»، ومن ثم بدأ التركيز على التهديد الشيوعي، وصولاً للكفاح من أجل الاندماج في الستينيات، ولم يدخل عقد السبعينيات، حتى تحوّل الطموح من مجرد «محاولة على البقاء»، إلى بدء التخطيط للمستقبل، وقد حدث ذلك مع«لي كوان» الذي انتشل المجتمع من مستنقعات الخوف والدموع والدماء، إلى المستقبل المشرق، بشعاراته وخططه المستقبلية الكبرى.
من الاستعمار إلى الاستقلال، روت سنغافورة قصتها التي بدأت بخطّ حروفها الأولى في الثمانينيات، عبر أهدافٍ لاهوادة فيها، اندمجت خلالها الأعراق المختلفة (الصينيون، الهنود، المالاويين)، وقُدِّر المحترفون بشتى المجالات وخاصة التعليم، فقد عُني بالمعلم، وكان راتبه الشهري من أعلى الرواتب، واشترط ألا يمارس التعليم، إلا من يتقنه باحتراف، وهو ما حقق شروط بناء الأمة.
والعجب أن هذه الجزيرة الجافة القاحلة، لم يكن لديها موارد حقيقية يمكن الرهان عليها، لكنها كانت تمتلك أغلى الموارد على الإطلاق… إنه الإنسان!
كيف يمكن تحويل الإنسان إلى موردٍ غير ناضب؟! الإجابة ببساطة، بالتعليم.
استلهم الزعيم السنغافوري، بعض أسس التعليم من التجارب البريطانية والغربية. يريد لهذا الدولة الأصغر، أن تخترق العالم بتربية العقول، ركز على التعليم المنتج، فالفهم أهم من الحفظ.
منذ الاستقلال أخذ التعليم أولوية قصوى، يقول لي كوان: «أنا لم أقم بمعجزةٍ في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين، من طبقةٍ بائسةٍ إلى أرقى طبقة في سنغافورة، المعلم هو من صَنَع المعجزة، هو من أنتج جيلاً متواضعاً يحب العلم والأخلاق، بعد أن كان شعباً يبصق، ويشتم بعضه، في الشوارع».
في عام 1997، أطلقت رؤية جديدة تحت مسمى: «مدارس تفكر، أمة تَتَعلم»، ومن العنوان يبين البيان، فالمدرسة التي تفكر، لا تردد كالببغاوات، ما لا تفهمه. عندما ينشأ عقل الطالب الصغير على التفكير، دون قيود، فسيكون قادراً عندما ينضج على القيادة والابتكار، والدفع بنفسه وعمله إلى الأمام.
النموذج السنغافوري، استفادت من نجاحه مدنٌ متفوقة مثل دبي، لقد برع الزعيم الماليزي «لي كوان يو»، بإدارة بلاده، وإنقاذها من الضياع، حين أدار الأمور بميزانٍ من ذهب. قبض على السلطة بقوة، وأخذ زمام التنمية بالقوة ذاتها، فنجت السفينة من الغرق، وأخذ بأيدي الناس إلى مستقبلٍ واعد.
وصفه جورج بوش بأنه: «واحدٌ من ألمع وأقدر الرجال الذين قابلتهم. قصة سنغافورة ينبغي أن تُقرأ من قبل المهتمين، بقصة نجاحٍ آسيوية حقيقية». وهنري كسينجر يعتبره: «الزعيم الآسيوي الأوفر حكمةً». بينما جاك شيراك، يصف التجربة قائلاً: «أنْ تنهض أمة من عتبة الوجود، إلى واحدةٍ من أعلى مستويات المعيشة بالعالم، في ثلاثين سنة، ليس بالإنجاز العادي، أساس هذا النجاح يكمن في عبقرية لي كوان يو». ثمة مفارقة لافتة، في شخصية الزعيم الذي رحل في 23 مارس 2015، فهو كان تجسيداً، لما ذكره الماوردي والكواكبي وغيرهم، مستبداً عادلاً. فتحويل سنغافورة وتقدمها لم يكن بالديموقراطية، ولا بالحريات المنفلتة!