عبثاً حاول، الزميل الصحافي، عثمان تزغارت، تهدئة غضب الفيلسوف، عبدالرحمن بدوي، حين التقاه لإجراء حوارٍ لمجلة «المجلة»، في أبريل عام 2000. لم يكن الخلاف على قيمة المكافأة، لقاء المقابلة، كما حلل البعض، وإنما بسبب طبيعة الأسئلة أولاً، وشخصية بدوي الصعبة ثانياً.
الفيلسوف الكبير، كانت شخصيته جدليّة، واشتهر بكونه غضوباً. وفي المقابلة الشهيرة، أجاب بدوي على بضعة أسئلة، فكتبت «المجلة»، قصة الحوار موضوعاً وكتبت على غلافها: «المفكر عبدالرحمن بدوي في حوارٍ مع المجلة تخللته الشتائم والاتهامات».
3500 فرنك فرنسي، قيمة الحوار، الصعب، طلبها الفيلسوف، عداً ونقداً، ولبيت له كل شروطه، لكن ورطة الزميل تزغارت مع بدوي، قصّة أخذت حيزاً كبيراً من صفحات المجلة التي كانت آنذاك تقدم صحافة راقية، وكان رئيس تحريرها حينها، الزميل عبدالعزيز الخميس. يقول تزغارت: توجهت إلى الدكتور بدوي فإذا بي أمام شخص عصبي، كلما ذكرت له شخصية من كبار أعلام الفكر والثقافة الذين تناولهم في النقد اللاذع في سيرته، لم تخرج من فمه سوى ألفاظ مقذعة من قبيل: «كلب، حشرة، جاهل، حقير، ولا شيء، نكرة».
وكان الفيلسوف الكبير، بدأ اللقاء بالهجوم على الرئيس المصري السابق، عبدالناصر، ووصف تصرفاته كلها بـ«الحمقاء والطائشة»، وقال عن وزير خارجيته محمود فوزي، إنه: «معتوه جهول، لا يدري ولا يفقه في السياسة شيئاً».
من المهم قراءة الجانب الجدلي، للشخصيات الكبرى، وهي لا تنقص من قيمة نتاجهم الفكري، بل، ربما، تُكمل صورة المبدع والعبقري.
كان الإمام الذهبي يتحدث عن خصومات العلماء المتعاصرين، بقوله:«كلام الأقران كتناطح العنزان»!
والخصومات بين الفلاسفة منذ العصر الإغريقي، مشهودة، فالفيلسوف هيراقليطس، انتقد كثيراً من مثقفي زمانه، ووقعت خصومة شرسة، بين الفيلسوفين الألمانيين، شبنهور، وهيغل، وحصلت عداوة مستعرة، بين نيتشه، وفاغنر.
فالدكتور عبدالرحمن بدوي، ليس بدعاً، بمعاركه مع مثقفي عصره، التي فاضت بها سيرته الذاتية، ومن ذلك خلافه مع كلية الآداب: «تحولت هيئة التدريس إلى عش للأفاعي، ينهش بعضه بعضاً، ويُؤرث الخصومة بينهم عمداء لم يصلوا إلى هذا المنصب بالعلم والكفاية الإدارية الجامعية، بل بالصلات مع من في الحكم، مثل أحمد أمين، أو العلاقات الحزبية الدنيئة، مثل حسن إبراهيم حسن، أو الدجل الديني والسياسي، مثل عبدالوهاب عزام، أو الدسائس الخسيسة، مثل زكي محمد حسن»!(سيرة حياتي-1/157).
أما سيعد اللاوندي، فهو التلميذ الذي أرهقه أستاذه، حيث كتب عن معارك بدوي المثيرة للجدل، إذ كانت القاذفات اللفظية، تنطلق من الجامعة، أو المقهى، أو من محيط فندق صغير، بالحي اللاتيني، بباريس، أقام فيه بدوي.
اتهم بدوي، محمد أركون، بأنه تلميذ الاستشراق، وأطلق عبارات ازدراء للعقاد، وانتقص من قيمة الشيخ محمد عبده.
أراد أركون من بدوي، الدخول إلى معترك المفاهيم الحديثة للعلوم الإنسانية، ولكن بدوي، هاجم أركون مبكراً، فعده كارثةً على الثقافة الإسلامية. ويروي اللاوندي، أن جامعة «السوربون»، توسّطت بينهما، فحولت الخلاف الحاد، إلى نفورٍ موزون، ولكن بقي في النفوس ترسباتها.
واتهم بدوي، زميله في جامعة الكويت، فؤاد زكريا، بالعلمانية، والإسهام بتشويه الإسلام، في موقف تعجب منه زكريا نفسه، نظراً لصداقتهما!
وتناول، أنيس منصور، بكتابه: «في صالون العقاد كانت لنا أيام»، جوانب من صراعات بدوي والعقاد، وحين اتهم الأول الثاني بالجهل، رد العقاد:”بدوي عندما حاول أن يبتذل كتب قصة (هموم الشباب)، بدأها جنسية ثم انتهى بها سياسية، لقد كان فيلسوفاً مراهقاً، في الجنس والسياسة، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك، الجسور التي أقامها عبدالرحمن بدوي، أكبر بكثير من البيوت التي أقامها، وعبدالرحمن بدوي في الفلسفة مثل المرشدين السياحيين»!
معارك المفكرين وخصوماتهم، تظهرهم، بشراً، تعتريهم مشكلات الناس، من تحاسد وتباغض، وتميل بهم، في كل اتجاه، حظوظ النفس، وجشع الدنيا!
شخصية بدوي، الجدلية، انسجمت مع مذهبه الوجودي، الرافض والمحتج، فكأنما انعكست رؤيته المتشائمة للوجود، على انفعالاته مع الآخرين، لكن ذلك، لا يقلل بحال، من عظمة نتاجه الفكري، الذي لم يوازه نتاج، في عصرنا الحديث!
جميع الحقوق محفوظة 2019