عادت إلى الواجهة مؤخراً جلسات ومناسبات نشر التسامح والتعايش!
الجلبة التي أحدثتْها الزيارات تعكس لغة خفية داخلية تجعل من حدث زيارة شيخ بغترته المسدلة المطهّرة من العقال لشيخ آخر معمم حدثاً يشبه انهيار جدار برلين! حالة “التفاجؤ” هذه هي التي تعكس الخلفية التاريخية للعلاقات بين المختلفين في الاتجاه الفقهي أو المذهبي. لو كنا متسامحين فعلاً لما كانت زيارة شيخ سني لآخر شيعي تختلف عن زيارة جار لجاره، أو احتساء قهوة بين صديق وآخر، أو شريك في الوطن وآخر. أنا متفاجئ فعلاً من حالة التفاجؤ الاجتماعية لتلك الزيارات البينية.
يحدثني أحد الأصدقاء المخضرمين والمسنين في نفس الوقت، أن البيوت كانت تتجاور بين المختلفين مذهباً، وكان الأولاد يتقاطرون للعب في مساحات واحدة. ولم تكن التقسيمات المذهبية حاضرة على الإطلاق. كانت هناك فروقات فقهية عادية، لم يكن التحزب كما هو عليه الآن. لا يتفاجؤون بزيارة جار لجاره المختلف مذهباً، إلا إذا تفاجأ الناس من زيارة صديق لصديقه. كانت الأمور تسير بسلاسة، على عكس ما هي عليه الأمور الآن. حيث انتشر التسامح بالولائم والمفاطيح، واختفى في الممارسات والسلوك على أرض الواقع.
إنني مع التسامح الفطري، ذلك التسامح الذي ساد في تلك الأزمان، ولستُ مع “استثمار” فكرة التسامح لصالح ترويج الذات من قبل أناس أفلسوا فكرياً، أو لم يجدو مدخراً من جماهيرية أو حضوة إعلامية أو قبول شعبي؛ حينها يذهب البعض منهم شرقاً وغرباً “مستثمراً” فكرة التسامح، ولو كنا متسامحين فعلاً لما احتجنا إلى تلك الكاميرات والمبالغات الصحفية، والهياج الإعلامي لأن سعودياً شيعياً زار سعودياً سنياً. إنه خبر مؤسف وليس مفرحاً، كيف صار الالتقاء بين مواطنين اثنين خبراً شعبياً وجماهيراً تصطفّ وراءه الناس بين مؤيدٍ ومعارض.
قال أبو عبدالله غفر الله له: لنقرأ التسامح سلوكاً في العصور الإسلامية الماضية، لنفتح “سير أعلام النبلاء” ولنقرأ تقويم الذهبي للرجال، كيف كان حذراً متسامحاً، كان يثني على المختلف مذهباً وفكراً، وكان يبدأ بالمحاسن، في وقتٍ يتحدث فيه أشباه المشايخ عن “البصق” على المخالف، أو يحولون التسامح إلى مشروع استثماري مربح.
التسامح أيها السادة ليس بالترزز في الصور ولا بفرش المفاطيح على الطاولات، إنه في السلوك الفطري الذي لا تكلّف فيه، فكلّ تكلف في التعامل مع الآخر هو “تصنّع” للتسامح.
جميع الحقوق محفوظة 2019