(37) ولِلسِّرِ مِنِّي مَوضِعٌ لا يَنَالُهُ * نَدِيمٌ ولا يُفْضِي إِلَيهِ شَرَابُ
أبلغ تعريف للسِّرِّ، هو تعريف الزمخشري، القائل: «السِّرُّ ما حَدَّثَ به الرجلُ نفسَهُ، أو غيرَهُ، في مكانٍ خالٍ».
نديم: النديم هو المُسامر الذي يُجالس على الشراب بخاصة، وهو الرفيق والصاحب والصديق بعامة، وقيل إنه مُشتَقٌ من النَّدَمِ، لأن أحد النديمَيْن ربما يندم على ما يجعله الشراب يتحدث به لنديمه. في (لسان العرب)، يقول ابن منظور: «المُنادَمةُ مقلوبةٌ من المُدامَنةِ، لأَنه (يعني النديم) يُدْمِنُ شُرْبَ الشراب مع نَدِيمه».
يُفضِي إليه: يصل إليه، والمقصد، لا يُوصِلُ إليه الشراب.
يقول المتنبي: إن مكانة السِّرِ عندي، تجعلني له كاتماً، ولتفاصيله حافظاً، فلا يحصل عليه صديق مقرَّب، ولا يقود إلى خروجه من حيِّز الكتمان شرابٌ.
بعث سيف الدولة الحمداني، برسول لأبي الطيّب المتنبي، فجَاءَ الرَسُولُ مُستعجِلاً، ومَعَهُ رُقْعَةٌ فيها بيتانِ للعبَّاسِ بنِ الأحنَفِ، في كِتْمَانِ السِّرِّ، يسألُه إِجَازَتَهُما، وهما:
أَمِنِّي تَخَافُ انْتِشَارَ الحَدِيثِ * وحَظِّيَ في سَتْرِهِ أَوفَرُ
ولَو لَمْ تَكُنْ فِيَّ بُقْيا عَلَيكَ * نَظَرْتُ لِنَفْسِي كَمَا تَنْظُرُ
فقالَ أبو الطَّيِّب:
رِضَاكَ رِضَايَ الذي أُوثِرُ * وسِرُّكَ سِرِّي فَمَا أُظْهِر
أي: إذا رَضِيتَ أمراً فهوَ رِضايَ، الذي أختاره وأفضّله على غيره. وكيف أبوح بسِرِّكَ، وهو سرِّيَ، فسِرُّنا واحدٌ، فهل يُظهر عاقلٌ سِرَّهُ؟!
كَفَتْكَ المُرُوءَةُ مَا تَتَّقِي * وآمَنَكَ الوُدُّ مَا تَحْذَرُ
يقول: إني صاحب مروءة، والمروءة تمنع صاحبها من إفشاء الأسرار وإظهارها، كما أني أَوَدُّكَ، ومن يَوَدُّ أحداً لا يُفْشِي سِرَّه.
إن ما عندي من المروءة، وما أُكِنُ لكَ من الود، كفيلان بتبديد خوفك على سِرِّكَ، وجديران بمنحك الطمأنينة والأمان، مما تخشى.
وسِرُّكُمُ في الحَشَا مَيِّتٌ * إِذَا أُنْشِرَ السِّرُّ لا يُنْشَر
يقول: بلغ حفظُ السِّرِ عندي وكَتْمُه، أنه صار ميتاً، مدفوناً في أحشائي، وهو لا يُنشَر، وإن جاء النُّشورُ.
وأوردَ إماتة السِّرِ في الشعر، سَوَّار بن المُضَرَّب السَّعديِّ، بقوله:
إِنِّي لَاسْتُرُ مَا ذُو الْعَقْلِ سَاتِرُهُ * مِنْ حَاجَةٍ وَأُمِيتُ السِّرَّ كِتْمَانَا
وللإمام الشافعي، أبيات لطيفة، يُعيد فيها تهمة إفشاء السِّرِّ إلى أصلها، فيقول:
إِذا المَرءُ أَفشى سِرَّهُ بِلِسانِهِ * وَلامَ عَليهِ غَيرُهُ فَهُوَ أَحْمَقُ
إِذا ضاقَ صَدرُ المَرءِ عَن سِرِّ نَفسِهِ * فَصَدرُ الذي يُستَودَعُ السِرَّ أَضيَقُ
(38) يُرَادُمِنَالقَلْبِنِسْيَانُكُم * وتَأْبَىالطِّبَاعُعلىالنَّاقِلِالطِّباعُ: طَبْعُالمرءِسَجِيَّتُه.
يقول: إنالعُذَّاليسعَوْنإلىتفريقنا،ويريدونمنقلبيأنيَسْلَىعنتذكركم،ويُعرضعنكم،وهيهاتلهمذلك،فمحبتكممتأصلةفيطبعي،ويرفضالطبعأنينتقلمنمحبتكمإلىنسيانكم.
واختارالشاعرللتعبيرعنرفضالطباع،الانتقالَمنالمحبةإلىغيرها،كلمةَ: (تأبى)،إِباءً: أيترفضبشدة،وإصرار،وكراهية. وهيأقوىمنالامتناعالمجرَّد،أوالرفض.
وفيالموضوعذاته،قالالعبَّاسبنالأحنف:
لَاتحْسَبِينيعَنْكُمُمُقْصِرَا * إنِّيعَلىحُبِّكِمَطْبُوعُوموضوعتمكنالطبعمنصاحبه،ممايستطيبالمتنبيإعادتهفيشعره،كقوله:
وكُلٌّيَرَىطُرْقَالشَّجَاعَةِوالنَّدَى * ولَكِنَّطَبْعَالنَّفْسِلِلنَّفْسِقَائِدُأيأنكلأحٍدقادرعلىرؤيةطريقالإقدام،وطريقالجود،ولايقودالمرءللسيرفيطريقما،إلاطبيعةنفسه،يقولالمتنبيذلكلممدوحه،مؤكداًأنطباعالممدوح،تقودهليسلكطرقالبسالةوالكرم،لأنهمطبوععليها،فيقودهطبعنفسه،للمضيفيطُرُقِالمعالي.
وفيالبابنفسه،يقولالمتنبي:
وإِذَاالحِلْمُلَمْيَكُنْفِيطِبَاعٍ * لَمْيُحَلِّمْتَقَدُّمُالمِيلَادِأي: إذالميكنالحلممتأصلاًفيالطِباع،مطبوعاًقديماًفيالخصال،فلنيتحققالحلمبكِبَرالعُمُر.
قالالإمامالجرجانيفي (دلائلالإعجاز): «تنظرُإِلىقولالناس: «الطبعلايتغير»،و«لستتَسْتطيعُأَنّتُخْرِجَالإنسانَعمَّاجُبِلَعليه»،فترَىمعنىغُفْلاًعامياًمعروفاًفيكلجيلٍوأُمَّةٍ،ثمتنظرُإِليهفيقولِالمتنبي:
يُرَادُمِنَالقَلْبِنِسْيَانُكُم * وتَأْبَىالطِّبَاعُعلىالنَّاقِلِفتَجدُهقدخَرجَفيأحْسَنِصورة،وترَاهقدتَحوَّلَجوهرةً،بعدأنْكانَخَرْزةً،وصارَأعجبَشيءٍبعدأنْلميكنشيئاً».