(42) خَلِيلُكَ أَنْتَ لَا مَنْ قُلْتَ خِلِّي * وإِنْ كَثُرَ التَّجَمُّلُ والكَلَامُ
الخَلِيلُ: هُوَ الصَّدِيقُ الذي ليسَ في مَحَبَّتِه خَلَلٌ، والخُلَّةُ: المَحَبَّةُ التي تَخَلَّلَت القَلْبَ فصارت خِلَالَه، أيْ: في بَاطِنِه.
التَّجَمُّلُ: تَكَلُّفُ الجَمِيلِ.
المعنى: إِنَّمَا الصديقُ الحقيقيُّ لَكَ هُوَ أَنتَ، لا غَيرُكَ، ولَو ادَّعَى صَدَاقَتَكَ وَتَصَنَّعَ مَوَدَّتَكَ مَنْ تَظُنُّهُ خَلِيلَكَ.
ومَا أَكثَر الذينَ يَدَّعُون الصَدَاقَةَ، ثم يظهَرُ أنهم أَعدَاءٌ، وهُم مَن لَفَتَ النَّظَرَ إليهم أبو نُواس، في حَدِيثِه عَنِ الدُّنْيَا، بقَوْلِه:
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ * لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ
وما أجْمَلَ قولَ هارونَ الرَّشِيدِ:
«لو وَصَفَتِ الدُّنيا نفسَها بشيءٍ لَمَا عَدَتْ عَنْ قولِ أبي نواس». يَقْصِدُ في بَيتِه السَّابِقِ.
قال ابنُ وَكِيعٍ في (المنصف)، عن بيتِ أبي الطيب:
«يَقْرُبُ من قَوْلِ القَرَاطِيسيِّ:
وَمَا أَحَدٌ يَكُونُ أَشَدَّ نُصْحاً * عَلِمْتُ مَكَانَهُ مِنِّي لِنَفْسِي
وكلامُ المُتَنَبِّي فيه شَرْحٌ واضِحٌ، ولفظٌ رَاجِحٌ، فهُوَ أَوْلَى بِمَا أَخَذَ».
والحقيقةُ أنَّ معنَى بَيتِ المتنبي، لا يَتَوقَّفُ عَلَى البُعْدِ عَنْ صَدَاقَةِ النَّاسِ لِقِلَّةِ الوَفَاءِ فِيهِم، بل يَجِبُ أنْ يكونَ ضِمْنَ بِنِاءِ المَرْءِ عَلَاقَةٌ مُتَصَالِحَةٌ إيجَابِيَّةٌ مع نَفْسِه، منها صَدَاقَتُهُ لِنَفْسِهِ. فَإِنَّ المَرْءَ إذا لَمْ يُحْسِنْ صَدَاقَةَ نَفْسِهِ، اِضْطَرَّ لِحِرْصِهِ على الخلْطَةِ، إلى بَعْضِ الأَرْذَالِ، أحْيَاناً، حِينَ لا تَتَوَفَّرُ صُحْبَةُ الكِرَامِ!
(43) وَلِلنَّفْسِ أَخْلَاقٌ تَدُلُّ عَلَى الفَتَى * أَكَانَ سَخَاءً مَا أَتَى أَمْ تَسَاخِيَا
لِلنَّفْسِ أخْلَاقٌ: أيْ طِبَاعٌ وعَادَاتٌ تُبَيِّنُ حَقِيقتَها.
السَّخَاءُ: الجُودُ والكَرَمُ والعَطَاءُ والبَذْلُ.
التَّسَاخِي: تَكَلُّفُ السَّخَاءِ، واصْطِنَاعُهُ.
المعنى: أنَّ طِبَاعَ الإِنْسَانِ التي جُبِلَ عَلَيْهَا، تُظْهِرُ حَقِيقَتَهُ، وَتُبَيِّنُ إنْ كانَ ما فَعَلَ كَرَماً حَقِيقِيّاً نَاِبعاً مِنْ أَعْمَاقِهِ، أمْ هُوَ تَصَنَّعَ هَذَا الفِعْلَ وتَكَلَّفَهُ وادَّعَاهُ.
وَاخْتَارَ السَّخَاءَ مِثَالاً، لِأَنَّ المَالَ عَزِيزٌ عَلَى النُّفُوسِ، ويَصعُبُ ادِّعَاءُ السَّخَاءِ والكَرَمِ وبَذْلِ المَالِ، فَيُصْبِحُ الفِعْلُ تَسَاخِياً لَا سَخَاءً!
ولأبي الطَيِّبِ، أيضًا، قولُه:
أَبْلَغُ مَا يُطْلَبُ النَّجَاحُ بِهِ * الطَّبْعُ، وعِنْدَ التَّعَمُّقِ الزَّلَلُ
يقول: غَايَةُ النَجَاحِ تَكُونُ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الإنْسَانُ بِطَبْعِهِ الأَصْلِيِّ، بِلَا تَكَلُّفٍ ولَا تَصَنُّعٍ.
وفي البَابِ ذاتِهِ، قولُ زُهَيْرِ بنِ أبي سُلْمَى:
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِن خَلِيقَةٍ * وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
يعني أنَّ الإنسانَ إذا كانَ عِنْدَهُ طَبْعٌ ظَنَّ أنَّهُ يَخْفَى عَلى النَّاسِ، فهذا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا بُدَّ أنْ يَعْلَمَ بَعْضُ النَاسِ بِهِ.
وَفِي البابِ أيْضاً، بَيتُ ذِي الإصْبَعِ العَدْوَاِنِّي:
كُلُّ امْرِئٍ رَاجِعٌ يَوماً لِشِيمَتِهِ * وإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلَاقاً إِلَى حِينِ
قَال الحَسَنُ اليُوسِيُّ في (زهرُ الأكم في الأمثال والحِكَمِ):
«والخُلُقُ: السَّجِيَّةُ والطَّبْعُ، وتّخَلَّقَ الرَّجُلُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ: تَكَلَّفَ ذَلِكَ. والمعنى: إنَّ السَجَايَا لا تَزُولُ، والخَلَائِقُ القَدِيمَةُ لا تَحُولُ، كما قِيلَ:
يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ * وتَأْبَى الطِّبَاعُ على النَّاقِلِ
ومِنْ كَلَامِ العَامَّةِ: تَنْتَقِلُ الجِبَالُ وَلَا تَنْتَقِلُ الطِّبَاعُ: فَمَتَى تَخَلَّقَ الإِنْسَانُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ وَتَكَلَّفَ ما لَيْسَ في طَوْقِهِ لَقِيَ العَنَاءَ الشَّدِيدَ أَوِ افْتَضَحَ غَيْرَ بَعِيدٍ».
(44) غَيْرَ اخْتِيَارٍ قَبِلْتُ بِرَّكَ بِي * وَالجُوْعُ يُرْضِي الأُسُودَ بِالجِيَفِ
غَيرَ اخْتِيَار: بالاِضْطِرَارِ.
بِرَّك: البِرُّ هو الإِحْسَانُ.
الأُسُود: جَمْعُ أَسَدٍ، وهو فِي المُتَخَيَّلِ الثَّقافيِّ مَلِكُ الحَيَوَانَاتِ، سَيِّدُ السِّبَاعِ، ولَهُ أسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، قال ابنُ خَالَوَيْهِ إنّهُ أحْصَى للأَسَدِ أكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ اِسْمٍ، وَزَادَ عليه عليُّ بنُ قَاسِمِ بْنِ جَعْفَرٍ اللُّغَوِيُّ، مِئَةً وثَلَاثَينَ اِسْماً، ومَنْ تَصَفَّحَ المَعَاجِمَ العَرَبِيَّةَ لَنْ يَسْتَغْرِبَ أنْ تَصِلَ أسماءُ اللَّيْثِ إلى أَلْفِ اِسْمٍ.
الجِيَف: جمعُ جِيفَة، وهيَ جُثّةُ الْمَيْتِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْمَوَاشِي، إذَا أَنْتَنَتْ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَغَيُّرِ مَا فِي جَوْفِهَا. (المصباح المنير)، للفيومي.
ونَحْوَ معنى البيت، قولُ أبي عليٍّ البَصِيرِ:
لعَمْرُ أبِيكَ مَا نُسِبَ المُعَلَّى * إِلَى كَرَمٍ وفِي الدُّنْيا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ البِلادَ إذَا اقْشَعَرَّتْ * وَصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيمُ