لطالما كانت السعودية عبر تعاقب ملوكها حريصة على أمر أساسي لا محيد عنه، وهو ترسيخ مفهوم الدولة. منذ عهد الملك عبد العزيز، وحتى عصر الملك سلمان، أخذ المفهوم مداه على مستوى تحقيقه في الداخل وتثبيته، وحراسته في دول الجوار من العبث، والخراب. وحين رفع أحدهم صوته متوعدًا بالقيام بعمل رجال الشرطة، ضمن أحداثٍ أمنية في المنطقة الشرقية، واجهه ولي العهد الأمير محمد بن نايف بصراحة: «الدولة ستبقى هي الدولة».
ما تقوم به السعودية في اليمن هو امتداد لذلك الإيمان التاريخي، والقناعة الثابتة. وآخر نصائح الملك حين التقى ميشال عون، كما يروي وزير الداخلية نهاد المشنوق: «عليكم أن تبسطوا سيطرة الدولة على كل لبنان»، وحين سئل المشنوق، لماذا السعودية لم تهتم بلبنان طوال سنين الفراغ الرئاسي؟… قال المشنوق: «السعودية تتعامل مع دولة، لا تتعامل مع رؤساء أحزاب». هذه هي الخلاصة، بل وعصارة السنين، التي كُونت لدى الملوك المتعاقبين، أن التعامل مع الدولة، لا الميليشيات، ولا الأفراد، ولا قادة الأحزاب!
منذ 1927، وما تلاها، عاشت السعودية سنواتٍ استثنائية، رغب فيها الملك عبد العزيز، تثبيت حكمه بوجه المارقين… كانت بعض الحركات المناوئة تعاند ومنها «الإخوان»، الذين انتصر عليهم وسحقهم بهزيمة شهيرة في 30 مارس (آذار) 1929، بمعركة السبلة. غير أن تهديدًا لم يلق عليه الضوء كثيرًا، وكان على الحدود الشمالية، حينها حشد الملك عبد العزيز، لمعركة تكون قاضية على العُصاة. يروي هذه التفاصيل بطريقة نادرة مستشار الملك عبد العزيز، يوسف ياسين، في كتابه: (يوميات الدبدبة – أول مذكرات يومية في حروب الملك عبد العزيز لتوحيد المملكة العربية السعودية)، وفي تفاصيل الرواية، أن «الملك سار بجيشِ جرار، سنة 1929، مخترقًا الدهناء والصمان للقضاء على فلول الإخوان الخارجين… وسُميت هذه السنة بسنة الدبدبة، إشارة للموقع الجغرافي».
يقول ياسين إن «الملك حين وصل حدود العراق، بذل ما أمكن من الجهد، لتفهم الحكومة أن القصد ليس ضدها، وإنما لتأديب بعض المارقين، الذين اعتدوا على حدود البلاد المجاورة، بما فيها العراق»، وكان حزمه قويًا إلى أن ثبت الأمن، ومَشّط الحدود، وأبقى للدولة سلطتها وللمؤسسات عملها… هذا هو زمن التأسيس الذي بنيت عليه السعودية… الإيمان التام بمفهوم الدولة.
طوال سنين البعث، والقومية، وآيديولوجيات الاشتراكية، والحزبيات الضيقة المتطرفة، أبقت السعودية على علاقاتها مع الدول، لم تنزلق في براثن الدعايات والخُطب… آمنت أن الدول تبنى بالمؤسسات، والعمل الصامت، مثل خلية من النمل تبني بصمت، بينما أبقت فترات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، المرحلة بركودها وضمورها، حتى تخشب العمل السياسي، وارتبط بالأصوات، والأقاويل والهذر اللغوي، لكن السعودية لديها سياسة أكثر جدية، استلهمها الملك عبد العزيز من وعيه بالمجتمعات الدولية، واستفاد من مراقبة الحروب العالمية… فهم العوامل التي تسبب الحروب الأهلية، وأدرك بوصفه سياسيًا محنكًا، أن كل ضمور لمؤسسات الدولة يعني صعود الإثنيات القبلية، والعرقية، والطائفية؛ لهذا كانت الدولة خيارًا أساسيًا، لتذويب الفوارق، والتأسيس للنسيان التاريخي، ودفن الأحقاد الجارفة!
هكذا كانت بريطانيا، وتجربتها خالدة وثرية، حين عاشت الحروب الأهلية في القرن السابع عشر، استطاعت أن تنهض من كبوتها بعاملٍ أساسي لا غبار عليه هو «تمتين الدولة»… أصبحت المؤسسات الفاعلة، بديلاً عن كل براثن الأحقاد… لم يعد أحد يقتل الآخر؛ لأنه ليس من مذهبه… اختفت الكراهية بين الكاثوليك والبروتستانت، والبركة تعود إلى إدراك حكماء تلك العصور بمعنى الدولة، والملك عبد العزيز كان قارئًا وعالمًا بالذي يدور في أوروبا، وبخاصة بريطانيا، بحكم احتكاكها التاريخي بدول الخليج، وقربها سياسةً ومصلحةً بالسعودية منذ التأسيس.
في نهاية المطاف، فإن الدولة هي خيار السعودية الأبرز، تتعامل مع الدول، لا الأحزاب، هذه قاعدة لا غنى لأي محلل سياسي عربي وأجنبي عن وعيها.
جميع الحقوق محفوظة 2019