أعلم أن الأزمة المالية الطاحنة تكاد تطيح برؤوس أينعت وحان قطافها على رواية الحجاج. وأعلم تماماً أن المتأثرين بها دولاً وأفراداً يعيشون أزمات حقيقية لا مجال معها للتندر أو ممارسة ما تسميه العرب الرأي الدبري، وهو ما بات معظم الكُتاب والمحللين الاقتصاديين يتبجحون به صباحاً ومساء، كما لو كانوا وصفة لدواء سعال، وهم يرددون: لقد حذرنا من هذا الانهيار، وأنذرنا من ذاك السقوط، وكررنا التنبؤ بما حدث، مع أن معظمهم لم يحذر ولم ينذر، ولم يقل شيئاً من هذا القبيل، ولكن من الذي سيدقق، وأين الذين سيطالبون بالبينة في الزحام، ومع انهيار الأموال والأنفس والثمرات؟ والرأي الدبري يا سادة، هو أن يقول الشخص المتفيهق بعد وقوع الكارثة، لقد حذرتكم منها قبلاً… غير أني لا بد أن أشير إلى أن الكثير من تصريحات المسؤولين في مناطقنا، تلك التي تشير إلى أننا في مأمن من آثار الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وبوادر الكساد العالمي الكبير كبراً لم يمر على هذه الدنيا بحجمه، يشبهون تماماً ذلك القروي الساذج الذي كان بنو قومه يندبون حظهم ويشتكون الغلاء، حتى إذا وقفوا على ارتفاع أسعار الوقود، على أثر ارتفاع أسعار النفط (آنذاك)، أرغوا في الحديث فيها وأزبدوا، وأطالوا ومددوا، تأكيداً على الكارثة، وتشديداً على المصيبة، ففغر الرجل البسيط فاه، حتى أحس بتتابع الكلام بين الحضور يقف عليه، فقال بعد أن رفع عقيرته وهو يعتقد أنه يأتي بما لم تأتِ به الأوائل: يرفعون البنزين والديزل أو لا يرفعونه، هذا لا يعنيني بحال، ولست منه بمتضرر قيد أنملة. وما كاد الرجل يسكت ليلتقط أنفاسه حتى توجهت الوجوه إليه بالاستغراب وتناثرت علامات التعجب والاستفهام على محيا الحاضرين، وكأنهم يطالبونه بأن يشرح ويوضح ويبين، كيف لن يتأثر بارتفاع أسعار البنزين، وهو من محدودي الدخل كما يعرف الجميع؟! فواصل لا فض الله فاه بالقول: أقول لكم إني لن أتأثر بارتفاع البنزين لأني لا أعبئ سيارتي إلا بعشرة دراهم فقط! فالرجل اعتبر أن ثبات دراهمه العشرة لن يتأثر، وهو قريب من تصريحات المسؤولين الذين نراهم يكررون أن اقتصادنا لن يتأثر وأسواقنا لن تتأثر، ثم نرى أثر تصريحاتهم أحمر من الدم القاني على الأسواق المحلية! يبقى الأثر الأسوأ للأزمة متمثلاً في منظومة القيم التي نتمنى ألا يفتك بها انحسار الطبقة الوسطى، المتأثرة بالانهيارات المالية، لجهة اتساع كبير في الطبقة الفقيرة، واتساع محدود في الطبقة الغنية. فالطبقة الوسطى هي ضمانة القيم والأخلاق في المجتمعات، فالفقير فقراً مدقعاً، قد تضطره الحاجة إلى عدم الاكتراث بهذه القيم، في ظل ركضه وراء اللقمة، والثري ثراءً فاحشاً، ربما ظنّ أن وفرة الأموال تجعله يخرق القانون كما يريد، وقصص الأثرياء ليست عنا ببعيد. غير أن لكل مصيبة وجهاً إيجابياً، وإن تعاظم أثر الجانب السلبي فيها، وأرجو أن يكون الوجه الإيجابي لهذه الأزمة، أن يعود الناس أفراداً وجماعات، لبناء قيمة المهنة، والاهتمام بالعمل، وتقدير الوظيفة، لينمو لدى الناس إحساسهم بحب أعمالهم، فالذين لا يحبون أعمالهم، لن يبدعوا فيها، ولن يخلصوا في أدائها، ومن يكون هذا شأنه، فمجتمعه ضعيف، ولو كان رصيده في ورق البنكنوت كبيراً، وسلامتكم!
جميع الحقوق محفوظة 2019