وصلت قبل يومين إلى نيويورك بعد غياب امتد نحو أربع سنوات عنها وعن الولايات المتحدة. نيويورك هي المدينة الأكثر تألماً من الإرهاب الذي أصابها في الحادي عشر من سبتمبر وضرب اقتصادها وبرجين فيها هما مركز التجارة العالمي. تتجمد نيويورك في نهايات العام وبدايات العام الميلادي الجديد عادة، ومنذ وصلت ودرجة الحرارة تصل درجة التجمد، لكن ذلك لا يغير شيئاً في سخونة مدينة المال والاستثمار، التي تزداد اكتظاظاً بالبشر والصفقات.
قال لي أميركي من أصل هندي يعمل في قطاع مصرفي: للوهلة الأولى كانت نيويورك وأنا الذي عشت في وسط أميركا رعباً بالنسبة لي. سألته: لماذا؟ أجاب: لأنني أرى الناس يسيرون إلى جانب بعضهم دون أن يلقي أحد منهم التحية على الآخر. هذا متناقض مع ما اعتدت عليه في الوسط. تأكدت من صحة كلامه عندما قارنت الحالة في غرب الولايات المتحدة حيث درست، مع الناس في نيويورك.
في وسط مجمع تجاري كانت ثلاث نادلات في مطعم يؤدين رقصة جماعية على أنغام موسيقى منبعثة من مسجل في المطبخ، والناس يأكلون ويتمايلون طرباً، في مشهد لا تراه كثيراً في غير أميركا.
كانت مهمة الحصول على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة، مهمة شاقة، ومن أجلها كان لا بد لي أن أوفّر ورقة من الشرطة السعودية تفيد بعدم ارتكابي لسوابق جنائية أو إرهابية!
كانت تجربة جديدة أن أستخدم أصابع يديّ العشر في البصمة، للتأكد من خلو صحيفتي من السوابق، وخفف من حدة التجربة، اللطف الجم الذي كان عليه ضباط وأفراد قسم البصمات في وزارة الداخلية السعودية.
وفي مطار جي اف كيندي، كان موظف الجوازات بشوشاً، وهو عندما رأى أنني ملأت استمارة دخول خضراء مخصصة لمواطني الولايات المتحدة، تساءل عن سبب تعبئتي للاستمارة؟ فأجبته بأنني عبأت كل الاستمارات مؤثراً الزيادة على النقص. فقال: ربما اخترت ملء الاستمارة الخضراء لأن جواز سفرك أخضر اللون! واظهر ملفاً أصفر اللون، ثم قال بلطف: هل سبق لك أن رأيت ملفاً كهذا؟ ثم اقتادني إلى مكتب للتسجيل. وهناك أمضيت نحو نصف ساعة في تعبئة بيانات عني وعن عائلتي. خفف من الإشكالية أن معظم طاقم طيران الإمارات الذي جئت على متن طائرته كانوا زملاء لي في الانتظار في مكتب التسجيل، وفيهم عرب وأجانب!
كان الموظف الذي أخذ بصمتي والتقط لي صورة فوتوغرافية غاية في اللطف، وهو أميركي بدا من شكله أنه ينتمي إلى أصول باكستانية، واسمه مالك، ولأنني أقيم في دبي، فقد كانت محوراً لحديث طويل كان يؤنس به وحشتي.
كان مكتب الاستقبال الذي جلس إليه بضعة موظفين مفتولي العضلات وموظفات في الجوازات والهجرة يتركون إلى ظهورهم لوحة إعلانات على امتداد جدار الغرفة وقد اكتظت بإعلانات لمطلوبين يبدو من ملابسهم وملامح وجوههم أن معظمهم سعوديون!
وفي وسط منهاتن، كان الفندق الذي أسكن فيه قد جهز عندما علم بجنسيتي سجادة صلاة، وبوصلة لتحديد القبلة، ومصحفاً في حاشيته ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الأنجليزية.
في المساء كنت أجلس في مقهى وأتجاذب الحديث مع سيدة أميركية، كانت تتفنن في إظهار سوءة الحكومة الأميركية الحالية. تذكرت بعد أن أطرقت متأملاً أن هذه البلاد هي أكثر دولة في العالم، لا تمنعك كراهيتك لحكومتها من محبتك لها ولشعبها.