بقلم: تركي الدخيل
١٧ مارس ٢٠٢٤
أحسن صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت ٧٦٤هـ)، عندما طَرَّز كتابه: (نكت الهميان في نكت العميان)، بمقدمات شائقة في تجليات لغوية، وأدبية، وفقهية، رائقة، أظهرت ملامح إبداعية، تنقلك في حقول متعددة، ما يتعلق بموضوع الكتاب، وهو العمى والعميان.
ما معنى النكت في عنوان الكتاب؟
مع انتشار معنى وحيد لـ (النُكَت)، أنها الطرائف والحكايات القصيرة المضحكة، ومفردها (نكتة)، وهو معنى حديث للكلمة، وإن كان له صلة بالمعنى الأقدم لـ(النكتة)، المعنى الذي يستخدمه العلماء، واختاروه لعناوين مؤلفاتهم وكتبهم، وهو أن (النكتة): هي “الفكرةُ اللطيفة، المؤثِّرَة في النفس، والمسأَلةُ العلميَّةُ الدَّقيقةُ، يُتَوصَّلُ إِليها بدقَّة وإِنعامِ فِكْر”، كما يقول (المعجم الوسيط). وفي نفس المعنى، يقول ابن منظور في (لسان العرب) إن “النُكْتَة هي: المسأَلة الدقيقة، أُخرِجَت بِدِقَّة نظرٍ وإمعانِ فكرٍ… لتأثر الخواطر باستنباطها أو لأنها تؤَثر في النفس قبضًا أو بسطًا… وقيل: النُكْتَة من الكلام؛ الجملة المُنقَّحة المحذوفة الفضول”. أي: زبدة الزبدة.
ووفقاً لهذا المعنى جاءت عناوين الكتب العلمية، وسأورد بعضا من الكتب التي حملت كلمة (نُكَت) في عناوينها:
أقدم ما وقفت عليه، فكتاب الهمذاني الضبي الجادلي، وهو: (نكات القرآن)، في القراءات وعلوم القرآن، وعلى غلاف الكتاب أنه كُتِب سنة (395 هـ).
وكتاب أبو الحسن ابن الفضَّال المجاشعي (ت 479 هـ)، وعنوانه: (النُكَت في القرآن الكريم)، وهو في معاني القرآن الكريم.
ثم كتاب القاضي جعفر بن عبدالسلام (ت 573 هـ)، وعنوانه: (نُكَت العبادات)، في الفقه الزيدي.
ثم كتاب صلاح الدين الصفدي (ت 764 هـ)، موضوع حديثنا: (نَكتُ الهِميان في نُكَت العُميان)
وكتاب بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) في علوم الحديث: (النُكَت على مقدمة ابن الصلاح).
شرح عنوان (نكت الهميان في نكت العميان)
الصفدي استخدم في عنوانه كلمة (نكت) مرتين، لكنهما تختلفان في معناهما وفي تشكيلهما.
الأولى: (نَكْتُ) من نكت الأرض أي توجيه عصا أو نحوها إلى الأرض لتحريك وجه التربة، وقيل: إزالة ما على السطح ورميه من مكانه. والثانية: (نُكَت)، التي شرحناها سابقاً.
والهميان بكسر الهاء هي جراب حفظ المال الذي يربط بجسم صاحب المال. فكأن المؤلف يريد أن يستخرج من كيس النقود بالنكت جواهره ثم يمرر الفوائد اللطيفة في الحديث عن العميان.
قدم الصفدي للكتاب بعشر مقدمات مختصرة في موضوع العمى والعميان في اللغة والأدب والفقه والطب والأحكام، ثم خصص الجزء الأكبر من الكتاب ترجم لشخصيات مهمة في مجالات الحياة المختلفة، من العميان، منذ العصر الجاهلي إلى عصر المؤلف في القرن الثامن الهجري، ورتب الشخصيات على حروف المعجم.
يحسن بداية أن نورد ترجمة ولو مختصرة لمؤلف الكتاب
مؤلف الكتاب: صلاح الدين الصفدي
هو: خَلِيل بن أيبك بن عبد الله، الْمَعْرُوف بصلاح الدَّين الصفدي، فاسمه: خليل، ولقبه: (صلاح الدين)، الأديب الْمَشْهُور، ولد سنة 697، بصفد في فلسطين، وإليها ينسب.
كان فاضلاً كريماً علماً عالماً، صنَّف الكتب الكثيرة، وتعلم في دمشق، فعانى صناعة الرسم فمهر بها، ثم ولع بالأدب وتراجم الأعيان. وتولى ديوان الإنشاء في صفد ومصر وحلب، ثم وكالة بيت المال في دمشق، فتوفي فيها. وكان جميل المروءة حسن المعاشرة، إليه المنتهى في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم.
له زهاء مئتي مصنف، منها: (الوافي بالوفيات)، و(الشعور بالعور) في تراجم العور وأخبارهم وترجم فيه لـ 111 شخصية، و(نكت الهميان)،و(أعيان العصر وأعوان النصر)، و(تصحيح التصحيف وتحرير التحريف)، و(نصرة الثائر على المثل السائر)، و(توشيع التوشيح)، و(كشف الحال في وصف الخال)، و(لوعة الشاكي ودمعة الباكي)، وغيرها. توفي مطعوناً في عام (764 هـ).
الصفدي متحدثاً عن الذين ذكروا أسماء العميان
يبدأ الصفدي مقدمة كتابه (نكت الهميان)، متحدثاً عن ابن قتيبة (ت 267 هـ)، الذي وضع فصلا في كتابه (المعارف)، بعنوان (أشراف العميان) ذكر فيهم عدداً من العميان من الصحابة والتابعين وأشراف قريش. ثم تحدث الصفدي عن أبي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)، الذي وضع فصلا في آخر كتابه: (تلقيح فهوم أهل الأثر) في تسمية العميان الأشراف. ولكن ابن الجوزي ما زاد على ابن قتيبة إلا بذكر ثلاثة أنبياء عميان، وترتب الصحابة على حروف المعجم، وكان يمكن ابن الجوزي رحمه الله تعالى الزيادة على ذلك بأضعاف مضاعفة، لتأخر زمانه على زمان ابن قتيبة، ومع ذلك اعتذر الصفدي للاثنين، “بأنهما لم يضعا مصنفيهما لاستيعاب ذكر العميان، وإنما ذكرا أشراف من كان أعمى”.
ثم قال الصفدي: “ورأيت أبا العباس أحمد بن علي بن بانة (ت 510 هـ)، قد ذكر في كتابه: (رأس مال النديم) أشراف العميان، فقال:
شعيب
وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهما،
وزهرة بن كلاب بن كعب بن مرّة،
وعبد المطلب بن هاشم،
والعباس بن عبد المطلب،
وعبد الله بن عباس،
وأميّة بن عبد شمس وكان أعور،
والحكم بن العاص،
وأبو سفيان بن حرب،
والحارث بن عباس بن عبد المطلب،
ومطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف،
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة،
وعتبة بن مسعود الهذليّ،
وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
وأبو أحمد بن جحيش ابن مسعود الأسديّ،
وجابر بن عبد الله الأنصاريّ،
وعبد الله بن أرقم،
والبراء بن عازب،
وحسان بن ثابت،
وقتادة بن النعمان،
وأبو أسيد الساعديّ،
وقتادة بن دعامة،
ودريد بن الصّمّة الجشميّ شهد حنين أعمى فقتل يومئذ،
ومخرمة بن نوفل الزّهريّ،
والفاكه بن المغيرة المخزوميّ،
وخزيمة بن خازم النّهشليّ.
هذا جملة من رأيته قد ذكره في كتابه، وأنت تقارب هذه الأسامي وعدتها بعضها من بعض”. ويسلم الصفدي بسبق ابن قتيبة، ثم ابن بانة، فابن الجوزي، مشيراً أن للخطيب البغدادي جزء جمعه في العميان، لم يره.
ولم يتحدث المؤلف عن ما جاء في كتاب (المحبر)، لأبي جعفر محمد بن حبيب (ت 245 هـ)، فهو متقدم على ابن قتيبة، ووضع فصلاً في كتابه لـ (أشراف العميان) وفيه ذكر 42 علماً من العميان الأشراف: أنبياء ومن قريش ومن الصحابة ومن التابعين، ويظهر أن الصفدي لم يقف على محبر بن حبيب. كما ذكر ابن هبة الله الأفطسي (ت بعد 515 هـ)، فصلا في كتابه: (المجموع اللفيف)، عنوانه: ذكر أشراف العميان، عد فيه أسماء، لكنها أقل مما ذكر في المحبر. ولا يبدو أن الصفدي وقف على الكتاب.
المقدمة الأولى: اللغة والاشتقاق
يقول الصفدي: “تتبعت أفراد وضع اللغة العربية، فرأيت العين المهملة والميم، كيفما وقعتا في الغالب وبعدهما حرف من حروف المعجم، لا يدّل المجموع إلا على ما فيه معنى الستر أو ذهاب الصواب على الرأي”. وفي هذا الإطار يقع العمى. ومن ذلك حسب المؤلف: “عمج عمج يعمج بالكسر، قلب معج. إذا أسرع في السير واعوجّ. وسهم عموج، إذا كان يتلوّى في ذهابه. وتعمّجت الحيّة، إذا تلوّت في سيرها، كأنها لا ترى الطريق الأقوم: قال الشاعر يصف زمام الناقة:
تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه … تعمّج شيطان بذي خروع قفر
والعومج الحيّة: وكذلك العمّج بالتشديد: قال الشاعر:
يتبعن مثل العمّج المنشوش … أهوج يمشي مشية المالوش
وقال قطرب: هو العمج، على وزن السبب.
فأنت ترى مفهوم هذه الأوضاع كيف يدل على معنى الستر وذهاب الصواب.
ومن ذلك عمرّد العمرّد بتشديد الراء الفرس الطويل: قال الشاعر:
يصرّف سيداً في العنان عمرّدا
وكذلك طريق عمرّد: قال الشاعر:
خطّارة بالسّبسب العمرّد
ولا بدّ للفرس إذا طال، أن يكون فيه بعض التواء، وذهاب على غير استواء. وكذلك الطريق إذا طالت”.
وفي (الكليات):
”العمه: التحير والتردد، بِحَيْثُ لَا يدْرِي أَيْن يتَوَجَّه. وَهُوَ فِي البصيرة كالعمى فِي الْبَصَر. قيل: الْعَمى عَام فِي الْبَصَر والرأي، والعمه فِي الرَّأْي خَاصَّة، وَفِي قَوْله تَعَالَى: (من كَانَ فِي هَذِه
أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى﴾ قيل: الأول اسْم الْفَاعِل وَالثَّانِي قيل هُوَ مثله، وَقيل هُوَ (أفعل من كَذَا) الَّذِي للتفضيل لِأَن ذَلِك من فقدان البصيرة [والعمى: يسْتَعْمل فِي الْبَصَر، يُقَال: أعمى، وَقوم عمي، وَفِي البصيرة، يُقَال: رجل عمي الْقلب وَقوم عمون]”. انتهى كلام الكفوي. وما قاله عن العمه، وأنه في البصيرة كالعمى في البصر، يلفت الأنظار، فمن بلغت به الحيرة مبلغاً لا يدري فيه أين يتوجه، هو في بصيرته، كأعمى البصر!
وللحديث بقية بإذن الله.