مع كل هذه الثورات القائمة، والتي تتجه نحو الخشونة بعد أن كانت في بداياتها ناعمة، مع كل تلك الهزات لم نناقش حتى اللحظة موضوع الإصلاح الديني. الشرق بطبيعته تشكل بعجينةٍ دينية، والحضور الديني في المخيال الاجتماعي له إيجابيات كثيرة، لكن هناك ثغرات لابد من إصلاحها. الكثير من تلك الثغرات جاء من التأويل والتفسير المتطرف للنصوص الدينية المقدسة في القرآن الكريم أو صحيح السنة. وإذا رجعنا إلى التاريخ نجد أن السجال حول الإصلاح الديني صار قوياً مع عصر النهضة العربي، خذ مثلاً المناظرة بين الفرنسي ارنست رينان وبين جمال الدين الأفغاني التي وقعت عام 1883 كان الإصلاح الديني فيها حاضراً ولكن على استحياء ، بدليل أن هذه المناظرة “هُذّبت” ومن ثم لم تنشر نشراً كاملاً حتى الآن، وهذا ما أشار إليه مجموعة من الباحثين المهتمين، لكنها نشرت باللغة الفرنسية فقط، ولم يجرؤ أي ناشرٍ على طباعة مضمونها، لأننا لا نزال نخاف من مواجهة مشكلاتنا الحقيقية وعلى رأسها مشكلة الإصلاح الديني. والإصلاح الديني له أكثر من وجه، فهو تارةً يرتبط بالإصلاح للمؤسسة الدينية، وتارةً أخرى ينصبّ على الخطاب الديني، وتارة ثالثة يتعلق بحضور الفقيه في المجتمع. ولكن الأصعب أن نحاول إصلاح كل تلك الثغرات. وذلك من خلال مأسسة النشاطات العلمية التي عرفت بـ”المدارس الدينية” بحيث تكون ضمن الوجهة العصرية للزمن. على سبيل المثال في باكستان عشرات المدارس الدينية التي تعلم الطلاب تعاليم متطرفة ومتشددة، وقل مثل ذلك ببقية دول العالم الإسلامي في أندونيسيا مثلاً، وحتى في بعض المناطق في السعودية وغيرها، هناك مدارس أو منظومات تعليمية بعيدة عن أداة الإصلاح التي تقودها المؤسسة الدينية، والتي يجب عليها أيضاً أن تكون ضمن العصر ومتطلباته، لا أن تضخ التطرف بصوره العديدة والضارة. المفكر التونسي محمد الحداد يضع الإصلاح الديني بمحددات مهمة، حين يقول:”الإصلاح الديني هو في صياغته الأكثر شمولية: إعادة ترتيب جماعية للعلاقة بين المتخيّل الديني والمتخيل الاجتماعي في الخبرات المعيشية لمجموعاتٍ بشرية ذات تنظيم اجتماعي وثقافي معقّد. لا يتمثل الإصلاح الديني في مراجعة بعض المواقف والأحكام بل التفكير بعمق في وظائف الدين في المجتمع، لقد تغيّرت وظائف الدولة والآلة والمختبر والمدرسة في العصر الحديث، فمن الطبيعي والحالة هذه أن تتغير وظائف الدين وعلاقاته ببقية المؤسسات الاجتماعية”. الإصلاح الديني لا يتعلق فقط بالأحكام بل بحضور المعاني الدينية في المجتمع. هناك فلتان وفوضى في حضور الفقهاء أحياناً، وكذلك في مضمون الخطب والمواعظ هذه ليست مشكلة فقط فكرية بل مشكلة مؤسسية. حين يبدأ المجتمع بخوض تجربة الإصلاح الديني يتحرر من أعباء التطرف ومن فلتان الحضور للسلطة المتطرفة التي تستخدم الدين كسلطة لا كعلاقة روحية وليست كصلة بين العبد وربه، بل أخذت على أنها وسيلة للتخويف والتهديد، بعضهم يستخدمها بوجه السياسي كما تفعل جماعات الإسلام السياسي. الإصلاح الديني أهم من الإصلاحات الأخرى، لأنه بوابة للنهضة بالمجتمع من القعود والركون إلى التخلف والتقليد. ومع كل هذا الكلام والحديث عن التغيير ومع كل موجات الثورات العربية لا يزال الإصلاح الديني بمعزلٍ عن كل الجهود المطروحة والمساعي المبذولة لتحرير العرب من الاستبداد. ولنعد إلى زمن عصر النهضة سنجد أن المحاولات كانت أكثر شجاعةً ووضوحاً منها الآن، بل إننا نغرق في مجاملات للثغرات الموجودة في المؤسسات المسؤولة عن الدعوة أو الإفتاء أو التعليم الديني خوفاً من السلطة التي استخدمت دينياً ضد المجتمع، وهذا هو المؤسف، ويبقى السؤال: متى نبدأ رحلة الإصلاح الديني؟! تركي الدخيل www.turkid.net
جميع الحقوق محفوظة 2019