كان حواراً على الطائرة العائدة إلى دبي قبل عامين، كنت مرهقاً متعباً يرى طيف المخدة على سلم الطائرة، لم يكن ليبطل نيتي في نوم عميق، سوى غلاف كتاب أمام الراكب المجاور، لم يكن الحوار ليبدأ لولا فضولي الذي ورثته أولاً من الإعلام، وثانياً من شغفي بالكتب التي يحب الآخرون قراءتها في الطائرات، والمطارات، ووسائل النقل، ويصدف أن أرى بعض هذه الكتب في المراجعات، التي تنشرها الدوريات الغربية عن أكثر الكتب مبيعاً، وبطبيعة الحال تترجم للغتنا العربية بعد حين، فأكون كمن شهد السوق – بفضولي المعتاد – بقراءة أو بحديث صديق يشاطرني الفضول.
امتد حوار الراكبين اللذين تعرف أحدهما الآن، حتى وصل صديقك المتعب إلى بيته، دون أي شعور بالملل و بدون دقيقة نوم واحدة على متن تلك الطائرة.
تسحرني بدايات الأذكياء في جذبك من مقعدك بجملة واحدة، بدأ معي ستيفن – وهو اسم الراكب – الذي أنهى للتو قراءته الأولى لكتاب «العاقل: تاريخ موجز للبشرية»، بتهنئتي على مرور أكثر من 113 عاماً على اختراع الطائرة، هذه الفكرة التي تنقلنا الآن من لندن إلى دبي في سويعات، مضيفاً أن هذا المقعد المتحرك الذي تميله متعللاً بتعبك الآن، ما هو إلا تفصيلٌ صغيرٌ آخر من إبداع مخيلة أخرى، ومن ثم التفت إلى بكامل جسمه – لحظة الإقلاع – قائلاً: ما الذي نعرفه عن تاريخ البشرية؟!
يُقسم يوفال هراري، تاريخ الإنسان العاقل، وهو ليس وحيداً في تقسيمه هذا، إلى أربع مراحل مفصلية، فيعود 70000 عام قبل الميلاد، ليؤكد أن اللحظة الأهم في تاريخ الإنسان، هي اللحظة التي قرر فيها أجدادنا استعمال الخيال، فبه استطاع الإنسان التواصل، لينظم نفسه لاحقاً، محدداً احتياجاته، مهاجماً بطرق حربية مبتكرة، غيره من الكائنات، ما جعله يتسيد هرم كائنات الكوكب.
قال لي جاري: فكر في الأديان، الأساطير، والأوهام، والروائح، والألوان، على حد معرفتنا البشرية فإن العقل العاقل وحده – بفضل الخيال – من يستطيع تجريد كل هذه المعلومات، ليستعملها في يومه البسيط، وهو وحده من يستطيع تنظيم نفسه في مجموعات، تؤمن بغير المحسوسات، ليحولها إلى أفكار وعقائد، يحب، ويكره، ويحارب، ويصادق، ويعادي عليها ومن أجلها!
يمكن لأعداد كبيرة من البشر، التعايش والاندماج، بعد الإيمان بأسطورة أو قصة مشتركة، لا تستهن أبداً بالجموع حين تعتمد رواية معينة.
يمكن لمسار التاريخ في أي بقعة أرضية أن يتغير، فقط بقصة واحدة مكتملة تتبناها المجموعة، فالواقع المتخيل ليس أكذوبة بعد أن تصدقها الجموع!
لا أحد يستطيع إيقاف شغف قارئ بكتاب أنهاه للتو، حتى المضيفة، التي وصلت بالعشاء وابتسامة لطيفة، ألهمت جاري لينتقل إلى 10000 عام قبل الميلاد، مضيفاً أنها فرصة مناسبة للانتقال من عظمة لحظة استعمال أجدادنا للخيال، إلى اللحظة التي انتشرت فيها التقنيات الزراعية بشكل متزامن على الكرة الأرضية، مندهشاً من تكرار يوفال هراري أن ذلك بدأ في أفريقيا، ومن التوقف عن الصيد والانتقال إلى الزراعة، أصبحت معدة الإنسان أكبر من رأسه، فأصبح أكثر استقراراً وتمدناً، وأقل وحشية، مع باقي الكائنات الحية، طبعاً باعتبار الزراعة فعلاً بشرياً خالصاً.
انضم إلينا راكب مجاور، ابتسم قائلاً: «قبل 10000 عام، كان الناس أقل خصوصية، ولكن أقل شعوراً بالوحدة من الآن»!
بعد الثورة الزراعية وإثراء الخيال للمعرفة البشرية، أصبح الناس أكثر تكتلاً وتساؤلاً، لينتقل الفرد رويداً رويداً من الفردية إلى المجموعة، حتى ظهور الثورة العلمية قبل 1500 عام من الآن، ليبدأ الشك الذي يهز اليقين، وقد يؤدي إليه، ولكن بالحجج والبراهين، أصبح الإنسان أكثر شكاً وقلقاً، لكن أكثر إنجازاً، وبطبيعة الحال أكثر فردية، وإن عاش ضمن مجموعات كبيرة!
الثورة العلمية التي ازدهرت في أوروبا، جعلت النخب أكثر شجاعة، وقدرة على الاعتراف بجهلها، وثمرة العلم التواضع، وبالتالي أصبحت النخب أكثر قدرة على البحث والوصول إلى إجابات، مع أنها توقفت عن اعتبار الإجابات قطعية.
سأل ضيفنا الذي أرخى سمعه ستيفن عن السعادة، ما رأي الكاتب الذي تدافع عن أفكاره؟… كان سؤالاً في حينه، فقد انتصف الطريق وستيفن لم يصل حتى إلى القرن التاسع عشر في أطروحته التي حرمتني لذيذ النوم، لم يتردد ستيفن لحظة في اعتبار أن سعادة الإنسان اليوم – مع كل هذه الاختراعات – يمكن أن تجعله أسعد ممن سبقه، فلم يكن لدى الأولين ترف الكتابة والتدوين، ولم تكن هناك مقاعد لأبحاث السعادة في جامعة الحياة قبل القرن الحادي والعشرين.
لم يقاطع ستيفن سوى صوت كابتن الطائرة وهو يأمرنا بربط الأحزمة، لأننا سنمر بمطبات هوائية، توقعت أن يرتاح قليلاً، لكن المثقفين لا يفوتون فرصة كهذه، ربط حزامه، التفت نحوي قائلاً: «تخيل أن فكرة الخوف من الطقس لم تدخل على الإنسان إلا بعد أن امتهن الزراعة»!
تاريخ الإنسان عجيب، وتطوره أعجب، ولولا الخيال، والابتكار، والبحث، لما تميز البشر عن بقية الكائنات!