يفرض سؤال الهويّة نفسه على الطرح الفكري اليوم، ذلك أن الهجرات، وتنوّع المجتمعات، وتداخل الأعراق يوشك أن يكون مظهراً كونياً. تتمثل حجج التيارات المحافظة، خائفة على تأثر القيم الأصلية والعادات واللغة الأم للبلاد، بزحف المهاجرين أو اللاجئين، وهذا الصوت العالي، أخذ شعبيته، بعد هجرة الملايين في الأشهر الأخيرة من مناطق الصراع العربي لأوروبا، الأمر الذي جعل الملك محمد السادس، ملك المغرب، في كلمته مساء السبت الماضي، يحتج ضد تعميم الفهم المتطرف للإسلام، على عموم اللاجئين، وهذا فيه حيف وتجنٍ.
على الجهة الأخرى، ثمة ممانعة من بعض المهاجرين، الذين يرون في الآخر، مهدداً لقيمهم ودينهم وهويتهم، من هنا يكون الجدل مزدوجاً بين الضيف والمضيف، المهاجر والمواطن الأصلي.
الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، مهموم هذه الأيام بقصة اللاجئين، وموضوعات الهوية والقيم والموروثات الثقافية، التي يحملها الإنسان، وفي حوار معه أجراه ميكائيل فوسيل، اعتبر: «الفلسفة بمقدورها أن «تهشّم أوهامنا»، وأن تصوّب فَهْمنا الخطأ لذواتنا، لتجعلنا نعي بعمق هذا العالم. وعلى خلاف غيرها من المجالات، المترسخة في تجربة فعلية ثقافية جامعة، بوسعها أن تؤدي دورها، المتمثل في تحليل فهمنا للعالم ولذواتنا، بالاستناد أساساً إلى رؤى عقلية تتطلع إلى الكونية».
ثم يضيف: «إن الالتباس الحاصل بين «المبادئ» التي تقتضي تبريراً، و«القيم» الجاذبة، يغيظُني بشكل كبير»!
الفكرة الأساسية أن ما يتحجّر عبر الهوية المغلقة، والثقافة الموروثة، من أزمات، يمكن للتعايش، والتسامح، والانغماس مع الآخر في آرائه وأفكاره أن يحلها، وهذا دور ثقافي وأدبي وأخلاقي وفلسفي أيضاً، لأننا نستشهد بفيلسوف مثل هابرماس.
لا بد من الفصل بين «الهوية» و«القيم» و«المبادئ»، ذلك أن تغوّل الهوية في الذات، يفرض عليها سلوكاً انعزالياً عن الآخرين. لدينا نماذج مهمة لأفراد تجاوزوا الهوية الصلبة ليبقوا على هويتهم الأولى ضمن تنوّع يعيشونه، يصح هذا على الفرد من جهة وعلى مجموع الأفراد من جهة أخرى. في ألمانيا حيث يصعد صوت اليمين، يأتي هابرماس نفسه ليعلن عن دور المثقفين في نقاش الهويّة، فلهم دور يزيل الالتباس، ويرفع من مستوى كونية الإنسان بدلاً من انعزاليته، ونرى هذا في نموذج التعايش بمدينة «كوسمبولوتيه» (عالمية معولمة)، مثل دبي التي تؤوي أكثر من مئتي جنسية من أصقاع العالم، لكن ضمن هويّة متحركة مرنة حيوية تستطيع العيش والتعايش معاً.
ولأن هابرماس صاحب أطروحة «التواصل»، وهي نظريته الأهم، فإنه من المشجّعين على تحديد مفهوم الهوية، لأن الفضاء العام الذي هو مجال حركة المجتمع، يفترض إنجاز «الحوار العمومي».
حوار ليس له علاقة بهوية الطرفين ولا تفوّق هوية على أخرى، بل يبدأ الحوار العمومي بدرجة متساوية، هذا شرط التواصل لدى هابرماس، الذي يصر على أن: «كل ثقافة تستبطن قيما تتعرّف من خلالها، ضمن نظام تبادل يجعلها على تباين مع غيرها من الثقافات، والأمر ذاته ينسحب على الشكل الذي يعي به الأفراد ذواتهم، وهو المشكّل للهوية. الجدل بشأن الكونية الأخلاقية يتعلق بـ«مسألة العدالة»، وهذه المسائل بوجه عام يمكن أن تتوضح بحجج فقط في حال استعداد الطرفين لتبني وجهة نظر بعضهما البعض، بقصد وضع حد للصراع لمصلحة الجميع». الهويّة لا تحرس القيم، بل يمكن للتنوع أن يكون مغنياً ومضيفاً للإنسان، في حال خفف من الخلط بين القيم، والهوية، والمبادئ، والموروث. إن أي هوية لا تستطيع التجاوب مع الآخر البعيد، هي هوية تؤسس للانعزال والموت الاجتماعي والمعرفي.
الهوية الفعّالة هي أنت، وقد تواصلت مع الآخر وفهمته، لا تلك التي تجعلك تسمع الآخر وتنفيه!