بعض الناس، يسكنون جدة، وقلة من الناس، تسكنهم جدة. رحم الله محمد صادق دياب، الرجل الذي رحل صباح أمس في لندن وجدة تسكنه بصدق لا يوازيه صدق. حين زرته قبل ثلاثة أيام لم يدر بخلدي أنها الزيارة الأخيرة لأبي غنوة، ولما كتبت عنه بعدها مرتين، لم أكن أتوقع أني أرثيه قبل وفاته رحمه الله. كان حينما جئته متهللاً، وبروحه متفائلاً، كان يمنحنا “الغنوة” من دون أن نطلبها، والبسمة على محياه لا تفارقه، مع أنه غفر الله له، شكا لي من أثر آخر جرعة تلقاها من الكيموثربي، إلا أنه خلط الشكوى بالسخرية، فقال: يبدو لي يا تركي أن هذه الجرعة مخصصة للجمال وأنهم أعطوها لي بالخطأ! وحين يرحل أديب بوزن محمد صادق دياب وأستاذ بقيمته منحني الكثير، وعلمني الكثير، لا أجد سوى الدعاء وسيلةً للتغلب على آثار فقده. حتى آخر زيارة، كان يمدنا بعطائه، كان يعتبرنا مدداً له، بل ويعتبرنا أبناءً له، وحين رآنا في زيارتنا له لكأنها رؤية الأب الحاني، ورؤية الفلاح لثمرة غرسه وزرعه. فطبت وطاب ممشاك، وتغمدك الله بواسع رحمته، وتبوأت من الجنة منزلاً يا أبا غنوة!
لم يكن الموت مشكلةً لدى الراحل محمد صادق دياب، بل كان الرثاء مشكلة، ومنذ سنة 2007 وخواطر رثاء الصحفيين المملة تراوده، لهذا تأملتُ قبل أن أكتب هذه المقالة: يا الله كيف سأكتب عنه، أريد أن أكتب عنه بوصفه أستاذاً ومعلماً لا صحفياً رائداً، أمنّي نفسي بالهروب من لغة الرثاء، كتب محمد صادق دياب في 4 أبريل 2007 في جريدة “الشرق الاوسط” مقالةً بعنوان: “وفاة ميت” جاء فيها: “قذف الدنيا بآخر تنهداته، وهو يلقي بجثته داخل عربة نقل الموتى… وحينما تحرك السائق أغلق على نفسه باب العربة الخلفي، وماااااات، وفي اليوم التالي ظهرت الصحف بمساحات يكللها السواد، قصائد رثاء، صفحات عزاء، وكل عباقرة البكاء ينعون المبدع الكبير، وفي الليلة الثالثة حلمت إحدى جاراته بالمرحوم يشعل النار في كومة من الكتب، قبل أن يرتقي سور المقبرة ليمد رجليه في وجه المارة، وهو يبصق في الفراغ”.
قلتُ: وحين زرته في لقائي الأخير به، شعرتُ وأنا أهمّ باجتياز عتبات المكان أن الرجل الذي لم يبرحه الأدب وهو في غاية الألم، اعتذر مني أن قابلني وهو على السرير، لكنه منحني روحاً جديدة، إن في هذا الجسد الذي يعاني آلاماً مبرحة روحاً عصية على الموت، وحين تموت الأرواح العظيمة ترفرف آثارها أمام أعيننا، تكون الظلّ الذي يمنحنا البرد وسط لهب الشمس، وتكون تلك الأرواح البوصلة التي تدلك على خياراتك العظيمة، وهي التي تمنعك عن ارتكاب الحماقات!
حين كنا نشاهد الأفلام المجسدة للأرواح التي تسكننا من دون أن نحتسب كنا نظنّ أن هذا من الخيال الذهني أو المجاز اللغوي، لكنني ما أزال أستحضر أرواحاً دعمتني ورافقت مسيرتي أذكر في هذا الرثاء: والدتي رحمها الله، وروح الفقيد صالح العزاز، وروح غازي القصيبي، وروح محمد صادق دياب. رحمك الله يا روح الحجاز وتاريخه، رحمك الله يا أبا غنوة، وجبر مصاب أم غنوة وزهراتك الثلاث، وآلاف المحبين!