كانت الفنون ولا تزال المجال الأكثر عزاءً للإنسان في الأزمات والنكبات. والمؤرخ ول ديورانت في كتابه الكبير «قصة الحضارة»، تحدث عن أن الناي هو من أوائل الآلات الموسيقية التي اكتشفها الإنسان، ذلك أن هذه القصبة فيها عزاء لإنسان الكهف الذي عاش في الغابة بين السباع، وربما عاد وقد مات ابنه، أو افترست ابنته، أو مرضت زوجته ولا حول له ولا قوة. الفن قوة للإنسان وليس ضعفاً. لهذا فإن تدريس الفنون من أبجديات التعليم في المدارس العالمية. إذ سرعان ما يتهذب الطفل أخلاقياً وسلوكياً بمجرد عزفه للبيانو، أو إجادته لآلة من الآلات الموسيقية. ففي الفن تهذيب للذات الإنسانية وتطوير وتطهير لها. اعتادت إمارة أبوظبي على إقامة مهرجانٍ كامل للموسيقى الكلاسيكية في شهر مارس من كل عام، تستضيف فيه أهم العازفين والموسيقيين وقادة الأوركسترا في العالم، وفيه يحضر الناس من أطراف الإمارات، بل ومن مختلف دول الخليج، على ضفاف قصر الإمارات الشامخ تسير الجموع نحو القاعة، الترتيب الفخم، والناس بثيابهم الأنيقة الرسمية، والنساء بالفساتين الجميلة، يحضرون بإنصات إلى هذا المحفل المهيب. وخلال تلك الفعاليات تعزف مقطوعات لموتزارت وبيتهوفن وباخ وهايدن وشوبن، وغيرهم من كبار الموسيقيين الراحلين، الذين شكلت أعمالهم الفنية إرثاً حقيقياً لا يزال يتجدد إلى اليوم. بموازاة ذلك تبث إذاعة أبوظبي للموسيقى الكلاسيكية، على مدار اليوم أرقى السيمفونيات والمعزوفات، بالإضافة إلى تخصيص وقتٍ لموسيقى الجاز، وسواها من أصناف الموسيقى الهادئة. وهذه القناة الرائعة تعبّر عن اهتمام أبوظبي بالموسيقى الكلاسيكية، وبالفنون عامة، بصفتها علاجاً للإنسان وملاذاً له، لهذا تبدع المجتمعات التي تدرس الفنون وتجعلها ضمن مقررات الصفوف الأولى. ويسعد الأب حين يجد أبناءه تربوا على الفنون وتصالحوا معها منذ الصغر، ذلك أن هذا الاهتمام إنما يوضح قوة الإنسان وإصراره على تعلم الفنون تهذيباً لنفسه، وسمواً لروحه. اهتم الفلاسفة بالفنون، وألّف معظمهم كتاباً على الأقل حول رؤيته للفن، هكذا فعل «هيجل»، الذي قال:«إن قيمة الفنون أنها تساعد الإنسان على تحقيق إنسانيته». أما «شوبنهاور» فاعتبر «أن متعة الأعمال الفنية من خلال العقل تفسد متعة المتأمل»، وقال عن الموسيقى العالمية إنها أرفع الفنون وأسماها. أما كانط صاحب كتاب «نقد ملكة الحكم»، والذي تحدث فيه بإسهاب عن الفنون والجماليات فهو من قال: «الفنون تبعث فينا الأمل والارتياح والبهجة والنشوة ونعرف أننا أمام قيمة جمالية». الفنون ليست ترفاً، ولئن كانت بعض الثقافات صنعت بين الإنسان وبينها أزمة، ظناً من أرباب هذه الثقافة أن هذه هي وجهة نظر الدين، فإن الخلط كان في فهم أولئك للدين، لا في الدين بطبيعة الحال. أما الربط بين الفن والابتذال فجاء بفعل التيارات الأيديولوجية التي تؤسس لضرب الفن وسحقه، ألم يقل ذلك الواعظ «إن معنى كلمة فنان تعني حمارا»، مستشهداً باللغة، فهذا هو مبلغهم من الفنون للأسف، لكن تبقى الفنون من أجمل مناحي الحياة. ألم يقل نيتشه: «قد تكون الحياة من دون موسيقى غلطة»؟!
جميع الحقوق محفوظة 2019