من العلامات الفارقة في عاصمة الموسيقى الكلاسيكية: “أبو ظبي” أنها استطاعت أن تحوّل السنة إلى موسم متجدد يطرب له عشاق الموسيقى بأنواعها. لفت نظري احتضان هذه المدينة المتلألئة لموسيقى العبقري الألماني: “ريتشارد فاغنر” حيث عُزفت في قاعة “قصر الإمارات” أشهر ما كتبه من الأوبرا، هذا الموسيقار الذي أثار جدلاً في تاريخ الموسيقى الحديثة. رأى فاغنر أن: “الكلمة ليست سوى وسيلة لنقل الأفكار والاتصال بالناس، إلا أن تأثيرها لا يكمل إلا بموسيقية الصوت البشري.. وبالنظرة، وبالإشارة، حتى تكون لها إمكانية نقل المضمون الفكري والحسي وحتى تؤدي غرضها بتكامل وفاعلية وثراء”. عكست موسيقاه عناصر القوة والعاطفة الحادة، كما أن فحوى مشروعه الموسيقي استندت إلى أسس تعتمد على وحدة الفكر والحركة والتعبير. الدراما الموسيقية هي الهدف الذي عاش فاغنر ليحققه بفنه، تَكامل كشاعر فيلسوف وموسيقي في نفس الوقت، يقول فاغنر: “الكلمات وحدها لا تتمكن من التعبير في أرقى أنواع الشعر، فالكلمات هي الجذور والموسيقى هي الزهور.. والزهور أجمل وأهم من الجذور”. الذي جلب السوء لموسيقى “فاغنر” هو إعجاب القائد النازي هتلر بموسيقاه، وبالذات بمقطوعة فاغنر الشهيرة: (فالكيري Valkyrie). أسماها فاغنر على: ” أسطورة لدى القبائل الجرمانية الشمالية، ومنهم الفايكنغ، تشير إلى امرأة، بجناحين تنزل من السماء لاختيار واصطحاب المحاربين الشجعان الذين يقتلون في المعارك إلى الجنة”. رأى إبراهيم علوش أن: “هتلر كان يعشق موسيقى الملحن الألماني فاغنر، ولذلك كره اليهود فاغنر وحظروه – بشكل غير رسمي – في الكيان الصهيوني، ويقال بأن فاغنر آمن بتفوق العرق الأبيض، وكتب كراساً عن انحطاط الموسيقى بسبب النزعة التجارية اليهودية… فليس من المستغرب أن يطلق النازيون مصطلح “عملية فالكيري” على خطة طوارئ سرية كانوا قد أعدوها جيداً للإمساك بمفاصل الدولة الألمانية إذا ما حدث انهيار شامل نتيجة قصف الحلفاء المكثف للمدن والبنية التحتية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، أو إذا ما حدث انقلاب”. يوسف السيسي في كتابه المميز: “دعوة إلى الموسيقى” يبيّن أن: “فاغنر وهب حياته للموسيقى المسرحية في إطار ما سماه الدراما الموسيقية بدلًا من تسمية الأوبرا التي شذ عن قواعدها وتقاليدها التي كانت سائدة حتى أيامه. وقد تمكن في أعماله الأخيرة من أن يخضع الموسيقى لأدق تفاصيل أفكاره المسرحية المنبثقة من النص والمضمون الدرامي تاركاً بذلك أسلوب الأغنية الأوبرالية المسبوقة بالإلقاء … جعل من الأغنية جزءاً لا يتجزأ عن النص الشعري والحركة المسرحية وموسيقى الآلات والأصوات ولا يتجزأ عن سائر عناصر الدراما الأخرى من كورال وباليه ومناظر وديكور وإضاءة. وجعل من الصوت البشري آلة موسيقية تتكامل مع آلات الأوركسترا”. يرى البعض أن “فاغنر” كان أول من توسع في عدم التقيد بالنظام المقامي التراتبي، وإن جاء ذلك على حساب الأصوات المريحة التي تستعذبها الأذن، وسجلت موسيقاه بداية التحرر من سيطرة المقام الواحد في المقطوعة الموسيقية. إن احتضان أبوظبي لأوبرا هذا الموسيقار الكبير، فيه تعميق لحس الموسيقى النخبوية، يحاول البعض إشاعة الشعبي مقابل النخبوي مستنداً الى مبادئ التسويق، غير أن أبوظبي حوّلت النخبوي إلى سلعة رائجة، بدليل الجموع الغفيرة التي حضرت. هنيئاً لسكّان الإمارات وبخاصة أبوظبي بهذه الفعاليات الجميلة الخلاّبة التي تعكس روح الثقافة… الثقافة الحقيقة المحفورة على رسغ أبوظبي … الرقم الصعب في تحقيق معادلة الأصالة والمعاصرة.
جميع الحقوق محفوظة 2019