تثبت الحكايا المتداولة بصدق من أفواه الآباء والأجداد أن الطائفية لم تكن حاضرة في المجتمعات قبل الثورة الإيرانية، لم تكن اللفظة الطائفية متداولة أساسًا في المحيط الاجتماعي، وكانت عقود التجارة تبرم، والزواجات بين السنة والشيعة لا حصر لها ولا عدّ في الأحساء والقطيف وسيهات، وهذا التمازج الاجتماعي لم يكن متكلّفًا، أو خاضعًا لرؤية أكاديمية، أو لتطبيقٍ حرفي لنظرية في العقد الاجتماعي، بل كانت مسيرة الناس العفوية الإنسانية الطبيعية التي لم تكدّرها النزعات الذاتية، أو التوجهات السياسية.
بقيت الطوائف متجانسة متسامحة حتى جاءت الثورة الإيرانية، ومن ثم أخذت الظاهرة «الإحيائية» والصحوية في المجال السني تتصاعد مستفيدة من المناخ الثوري آنذاك، وتمزّق المجتمع وبدأت الأحاديث تأخذ طابعًا استئصاليًا بين السنة والشيعة يتوزعون التنابز بينهم بين متهمٍ بالرفض، وآخر بالنصب.
حين تحوّل الانتماء الطائفي، من مبادئ فقهية وارد فيها الاختلاف، إلى طائفيّة سياسية تضخّم العداء بين الطوائف، ذلك أن الخميني قالها منذ بدء الثورة أن الانتماء السياسي للطائفة أهم من الانتماء العقائدي، وحين جاءت «ولاية الفقيه» تغيّرت قبلة الإنسانية، وأصبح الحجّ القلبي والذاتي إلى الآخر البعيد، وأهمل الآخر القريب.
كان الملك عبد العزيز في أحاديثه مع أمين الريحاني (1876 – 1940) يقول إن الشيعة في الأحساء يبلغ عددهم ثلاثين ألفًا، وكلهم محل احترام، غير أنه يحثهم أحيانًا على التخفيف من المظاهرة والاحتفالات، لكنه لا يتدخّل، بعد الزمن الثوري باتت العقيدة الطائفية «سياسية» وليست «دينية»، وهذه هي المعضلة الحقيقية، لأن الشعارات صارت أهم من الصلوات، والهتافات للزعيم أفضل من الهتاف باسم الله، لقد تضخّم الداعية وصار الحاكم المطلق الساعي لأخذ ولاءات المنتمين إلى مذهبه في كل أنحاء العالم.
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود تجني إيران وتحصد علقم الطائفية، تضخمت صورة الآخر بين الطرفين، وبلغ العداء ذروته من خلال الحروب الأهلية بين السنة والشيعة بالعراق، ولبنان، وسوريا، لقد آلت كل تلك الدعاية التحريضية بالمجتمعات إلى التقاتل، وسفك الدماء! يقاتلون الآخر لما يحملونه من خيالٍ عنه، ذلك أن «المخيال» المرسوم في الخطب والمنابر لم يكن إلا وهمًا. وهذا يعيدنا إلى خطورة تكوين الصورة عن الآخر، نأخذه نظريًا من الفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف (1 مارس (آذار) 1939) فإن: «الوجود الفعلي للإنسان يكمن في التواصل العميق، أن توجد يعني أن تتواصل أن نكون يعني أن نكون (الآخر) نسبة إليه ومن خلاله، إنني أتلقى اسمي من الآخر، وهذا الاسم يوجد بالنسبة للآخر.. فالحياة حواريّة بطبعها، أن نعيش يعني أن ننخرط في حوار، إن الأنا تختبئ في الآخر والآخرين، إنها ترغب أن تكون أخرى الآخرين، أن تخترق عالم الآخرين كآخر، وأن تطرح عنها ثقل الأنا المتفردة في كلمة (الأنا) الموجودة لذاتها».
ونظرية «العقد الاجتماعي»، بأكملها على آماد تطوّرها بقيت تناقش علاقة الإنسان بالآخر، وترتيب الحركة بينهما في المجال العام. في ظلّ الطائفية لا يمكن أن ترسم عقدًا اجتماعيًا، لأن القمع يكون هو البديل، فرق كبير بين البعد الإنساني والاجتماعي في السعودية، وبينه في إيران، الحقوق التي يتمتع بها الجميع مهما كانت طوائفهم في السعودية هي ذاتها، بينما في إيران لا توجد أي فرصة أو فسحة للآخر السني أن يمارس شعائره بجامعٍ معيّن ضمن رأيه الفقهي، هذا هو الدور الطائفي في إلغاء وجود الآخر، وذلك ليس بسبب الاختيار العقدي والفقهي، بل بعلّة خطيرة وهي ربط الطائفة بالولاء السياسي المعيّن لنظامٍ معين هو نظام «ولاية الفقيه».
ما أثقل أغلال الكره للآخر، قديمًا قال جلال الدين الرومي (1207 – 1273): «كم هم سعداء أولئك الذين يتخلصون من الأغلال التي ترسخ بها حياتهم».
جميع الحقوق محفوظة 2019