عندما وقف الإنجليزي بيتر هايلير على مسرح الفائزين بجائزة أبوظبي، في العام 2013، كان قد أمضى في دولة الإمارات نحواً من أربعين عاماً، مستنفذاً فيها شغفه بالآثار، ممارساً فيها الصحافة والعمل في المجالات الثقافية والنفطية. غير أن ليلة من ليالي بيتر خلال أربعين عاماً قضاها في الإمارات كانت الأصعب، ولم تستطع عيناه أن تغمض للنوم جفناً!
في العام 1992، كان برفقة المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، في جزيرة صير بني ياس، حيث كان الشيخ زايد، كعادته، يقود فريقاً لتنمية الجزيرة التي يعود تاريخ سكناها لآلاف السنوات.
لقد اكتشف بيتر ضمن فريق أن في الجزيرة التي جاء بهم إليها رئيس الإمارات كنيسة يعود تاريخها للقرن السابع الميلادي، وبلغ عمرها 1400 سنة، كيف سيتقبل قائد أمة مسلمة كشفاً أثرياً لكنيسة؟! لا بد أن هذا خبر قد يعكر مزاجه؟ ربما يحرجه أمام شعبه؟! هل أخبره؟ هل يبقى الأمر في طي الكتمان؟ كانت هذه الهواجس تمور في ذهن الرجل موراً!
في اليوم التالي، سأله الشيخ زايد، ما سر القلق والإرهاق على وجهك، فتشجع وقال: إننا اكتشفنا بوادر تدل على وجود دير مسيحي، فما كان من الشيخ زايد إلا أن شجعه. وقال: ما الذي يمنع أن يكون أجدادنا الأولون مسيحيون قبل الإسلام؟! وأعطى توجيهاته بالحفاظ على المكان واحترامه والعناية به.
كانت الرؤية واضحة في ذهن الشيخ زايد، فالثقافات تتابع، وتتنوع، وافتراض القطيعة بينها وهمي، يتبناه المتشددون في كل ثقافة. وهو ما يؤكد أن للتسامح في الإمارات أسساً واضحة لا طفرات وقتية.
لقد استوعبت الإمارات نماذج من التسامح عبر التاريخ. يأتي تحويل ذلك التاريخ إلى عملٍ مؤسسي ليساهم في جعل التسامح مثل الماء والهواء، أمراً يومياً، بدهية من البدهيات. اطلعت على دراستين، إحداهما لفاطمة الصايغ والأخرى لعمر الحمادي، فيهما نماذج كبرى وعديدة ترصد تاريخ التسامح في الإمارات منذ عقود مضت.
على سبيل المثال رجل الأعمال الهندي فيجاي باتيا يروي أن الشيخ راشد بن سعيد حاكم دبي (1958-1990) كان يزورهم في مناسبة أعيادهم الدينية، وكان يأكل مما يأكلونه، كما كان الشيخ راشد يعطي المعلومات لطهاته بإعداد الوجبات الهندية النباتية لهؤلاء الهنود عندما يزورونه في بيته. هذا الأمر يعكس تقبل الشيخ راشد والحكام -آنذاك- مبدأ الاختلاف الديني وتشجيعه أتباعه على تقبل مبدأ الاختلاف مع الآخر.
وبناء على هذا الامتداد، فقد حظيت الإمارات بتقدير دولي نظير رعايتها العيش المشترك والتلاقي بين مئتي جنسية من كل الديانات والملل، ففي سبتمبر (أيلول) 2007 أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقديره للإمارات؛ لتسهيلها إنشاء كنيسة أرثوذكسية تخدم الجالية الروسية بالإمارات. وفي أبريل (نيسان) 2007 استقبل صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، البابا شنودة الثالث، بمناسبة افتتاح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في أبوظبي.
إضافة إلى أن قانون تجريم الكراهية في الإمارات يعد سبقاً تشريعياً عالمياً ضد كل ما يحيط بالدولة ومنطقة الخليج والوطن العربي من مخططات وتحديات ومساعٍ لتأجيج أشكال التمييز كافة؛ ونبذ خطاب الكراهية وتحريم التمييز بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو العقيدة أو المذهب أو الملة؛
ذلك جزء من أنموذج التسامح الإماراتي الذي لم يغادر ساسته، فضلاً عن المجتمع المتسامح بفطرته.
وترسم الإمارات النموذج المتسامح على الطريقة التي وصل إليها في منطقة ابتكاره وتشكّله في أوروبا، إذ كانت الأزمة متشابهة؛ يحدثنا عن قصة هذا الصراع، محمد أركون: «لم يكن العقل الديني المسيحي في أوروبا، في إبان القرون الوسطى، مختلفاً عن العقل الديني الإسلامي عند العرب في الفترة نفسها؛ فقد كان كلاهما عقلاً دوغمائياً يرى نفسه وحده صاحب الحقيقة ويرى الآخر، أيَّ آخر، من الضالين، بل كان هذا يصدق حتى على أصحاب المذهب الواحد ضمن أي دين من الدينين.
وقد انطلق العقل التنويري الأوروبي في معركته ضد العقل الديني الدوغمائي من حيث انطلق نظيره في العالم العربي، أي بمحاولة «إحلال الميتافيريقا العقلانية – المركزية محل المركزية اللاهوتية الدوغمائية للعقل الديني» التي شغلته مفاهيمها واهتماماتها زمناً طويلاً، غير أنه تمكن في خاتمة المطاف من زعزعة السلطة الكهنوتية العليا للمسيحية «وفرض محلها قطيعة حاسمة بين سلطة الكنيسة والذروة البشرية المتمثلة بالسيادة الشعبية أو حق التصويت العام للشعب». وهكذا فقدت القوانين كل صفة قدسية، وأصبحت قابلة للتعديل والتطوير بحسب الظروف والحاجات».
فضاء التسامح الممتد في الإمارات، لعله ينتج عدوى لدى الدول العربية الأخرى، لصناعة مجتمعٍ يتجاوز الثنائيات والقناعات المغلقة (الدوغمائيات) والتصفيات الرمزية والجسدية.